قائمة الموقع

3 أعوام أزهرت حياة "البرغوثي" بين 41 قيدًا

2020-11-23T09:37:00+02:00

تعرجات وجهه.. شعره الأبيض.. ملامحه التي تعج بمسيرة طويلة من المعاناة، تلك الشقوق التي تسلك طريقها بوجه الأسير نائل البرغوثي تحمل أيضًا ثلاثة وستين عامًا من عمره، كل واحد فيها يروي حكاية ألم عمرها (41) سنة خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي.

بين تلك الخيوط قصة وجع وشوق للحياة وانتظار للحرية، وحنين يشده إلى الفتى "نائل" ابن الـ17 ربيعًا، قبل أسره، وكأنَّ عداد الحياة تجمد عند تلك اللحظات، يرفض تلك النداءات التي تقول له: "إنك كبرت!"، لم يعترف بهذه السنوات التي أبعدته عن الحياة، ولحسن حظه أن المرايا لا تعرف السجون.

زوجته إيمان نافع تحتفظ بذاكرتها تفاصيل حكاية عمرها 32 شهرًا، عاشا فيها تحت سقف بيت واحد، اتحد قلباهما معًا بعد انتظار دام 24 عامًا، أزهرت قلب الأسير نائل بين 41 عامًا من القيد، فرقت بين مرحلتين عمريتين.

كيف عرف "نائل" إيمان نافع؟ بدأت القصة لحظة أسر الاحتلال إيمان عام 1987م لمدة عشر سنوات، وأفرج عنها عام 1997م، وبعد الإفراج عنها بعدة أيام أرسل نائل أهله لخطبتها، ولم تحدث الموافقة، كان الأمر شبه مستحيل أن يتقدم أسير محكوم بالمؤبد لطلب فتاة نفضت غبار القيد عنها وتنفست عبق الحرية، لكن نائل كان مؤمنًا بالحرية، وبقوة الحب الذي يحمله.

عبر طرف سماعة الهاتف "الأخرى" تعود نافع إلى السجن لكن هذه المرة من بوابة الذكريات: "عندما تقدم لي نائل بعد الإفراج عني عن طريق أهله مرة أخرى عام 2004م، بدأت بسؤال الأسرى المحررين عنه، والجميع كان يشيد به، فوافقت العائلة ولكن أرجئ عقد القران لبعد التحرر غير المعروف موعده".

10 سنوات وابتسامة "قهر"!

"ما سرُّ هذا الإصرار؟".. لم تجد إيمان الإجابة بعد، إلى أن تمكنت من الحديث معه هاتفيًّا، تروي إجابته لها حكاية عمرها (10) سنوات من الانتظار؛ ما زالت تسكن ذاكرتها: اعترف لي يومها بسبب تمسكه بالارتباط بي، فأجاب: "شاهدتك في دقيقة واحدة تتحدثين في مقابلة صحفية على التلفزيون بعد اعتقالك بأيام.. أعجبتني صلابة شخصيتك، وقلت أريد أن تكوني زوجة لي".

لا غرابة على أسير أمضى سنوات طويلة من عمره، أن يكتم أمرًا ما عشر سنين، فهو كذلك كتم حزنه خلف القضبان طيلة مدة الأسر، لا يراه الأسرى إلا مبتسمًا، يريد دائمًا أن يبقى منتصرًا، حتى ولو بابتسامة تقهر سجانه.

بدقيقة واحدة أسرت إيمان قلب نائل من سنوات أسر تكبله، تلك الرسائل الورقية التي كانا يرسلانها لبعضهما بعضًا كانت تكسر حواجز القضبان التي عزلت قلبيهما عن الاتحاد في الخارج، وتتجاوز هذه العزلة، لقد كان الورق الوسيلة المتاحة.

"إيمان منيحة، يما".. كلمات لا تكف والدته عن إعلانها على الملأ عبر "الراديو"، الوسيلة الوحيدة التي كان يصل بها صوتها إلى السجن، بها كانت تتجاوز العازل "الزجاجي" الذي يمنع صوتها من الوصول لابنها في أثناء الزيارة، كانت قبل وفاتها تبارك الزواج المنتظر عبر الراديو لأن المرض يمنعها من ذلك.

إيمان و"معادلة الرفض"!

"أتدري".. تقول: "عرفت أنه قبل صفقة وفاء الأحرار بخمس سنوات، عرض الاحتلال على نائل أن يفرج عنه مقابل إبعاده خارج الضفة، لكنه رفض وكنت جزءًا من معادلة الرفض".

18 أكتوبر/ تشرين الأول 2011م، تنفس البرغوثي عبق الحرية بعد 35 عامًا في سجون الاحتلال، مرت أعوام ومحطات الحياة.. كبر الأطفال من حوله وأصبحوا شبابًا، توفي والداه، كبرت شقيقته الطفلة "حنان" وأصبحت جدة، وهو خلف القضبان، أنجب شقيقه عمر، وكبر أبناؤه وأصبح لديهم زوجات وأولاد، يتأمل بكل ما تغير حوله: "أحقًّا كل هذا حدث؟!".

لم تكن قرية كوبر قبل اعتقال البرغوثي وهو لم يتجاوز 17 عامًا هي التي شاهدها بعد تحرره، تفاجأ بالسيارات والبنايات السكنية وعدد الناس والحافلات والمنازل والمدارس والجامعات، فلم يكن في أيامه سوى سيارات ومنازل قليلة ومتباعدة، حتى غاز الطهي كان بالنسبة له شيئًا غريبًا.

أخيرًا.. بعد شهر من الحرية، وبعد 24 عامًا منذ أن شاهدها على التلفاز، اتحد القلبان تحت سقف بيت واحد بعيدًا عن أسوار السجن التي فرقتهما، لم يلتفتا إلى سنوات العمر التي أخذت من هذا الانتظار نصيبًا، انتزع هنا نائل انتصارًا آخر، لقد ظفر بتلك الفتاة التي خطفت قلبه في دقيقة واحدة، وأقيم عرس وطني لهما، وزفت إيمان إليه.

تلك التنهيدة التي خرجت من حنجرتها تتكلم عن مئة حكاية بداخلها: "كان نائل في حفل الزفاف مرهقًا، استقبل طابورًا كبيرًا من المهنئين، لكنه كان سعيدًا لتحقق أمنيته بالارتباط بي أخيرًا، لكن كان أصعب شيء مرَّ عليه هو وفاة والديه، فقد تمنى العيش معهم لو لحظة واحدة خارج الأسر".

إسعاف وكرسي متحرك

قبل الإفراج عنه، سيارة إسعاف تحط أمام باب السجن، سيدة مريضة يدفعها الممرضون عبر كرسي متحرك، فكان الأسيران نائل وعمر (لحظتها كان الاحتلال قد اعتقل عمر) ينظران إلى أمهما الشجاعة التي كانت تعطيهما القوة وتساندهما في كل المحطات وترفع من معنوياتهما، تقف أمامهما ضعيفة أتعبها المرض، لا يستطيعان عمل أي شيء، ثم زارتهما بعد ذلك لكن كخبر أسكن الحزن في فؤادهما بوفاتها، وما صعَّب الأمر عليهما أن تقوم شقيقتهما حنان باستقبال المعزين وحدها.

كل شيء في الخارج كان يفاجئ البرغوثي، فليس غريبًا على أسير حرم نعيم الحياة، وغيبته السجون عن كل شيء جميل، أن يتفاجأ بسقوط الثلج لأول مرة.

موقف يجبر زوجته على الضحك، تتمنى أن تعود إليه مجددًا يسكن الألم نبرة صوتها: "يومها ارتدى نائل ملابس شتوية ووضع "الكفوف" في يديه ما إن بدأت الأرض تكتسي بالثلوج واللون الأبيض، وخرج يلعب مع الأطفال بالثلج، يناديني بالخروج للعب معه".

تلك التفاصيل تأسرها مرة أخرى: "جمع دلوًا من الثلج وتركه يذوب ويشرب منه، وأعد منه إبريقًا من الشاي، أحب القطط لأنها الشيء الوحيد الذي شاهده داخل وخارج الأسر وعاش معه كل مراحله العمرية".

بدأ الزوجان يمضيان فترة سعيدة، لم تكن هذه الفترة لنسيان سنوات الأسر، فتلك السنوات التي حرمته من كل شيء، لا يمكن نسيانها، لكن نائل يريد تسجيل انتصار جديد، بخوض معترك الحياة، والإبقاء على تلك الابتسامة المشرقة على وجهه حاضرة في كل مكان.

الحنين يشدها لتلك الأيام، التنهيدة التي خرجت منها هنا بها مسافة لا وصف لها من القهر: "بدأنا في بناء بيتنا بعدما ورث نائل من أمه أرضًا بمساحة خمسة دونمات، أصر يومها على أن يحفر بئر مياه لأنه يؤمن بالاكتفاء الذاتي وأهمية المياه، كل شيء في هذا البيت وضعناه معًا، تشاركنا في كل شيء".

زائر من عالم آخر!

لكن كان على إيمان مسؤولية في إعادة تعريف زوجها بالأشياء التي لم يكن يعرفها قبل الأسر وبداخله، لم يعرف غاز الطهي، وكيف تعمل الغسالة، والأجهزة الإلكترونية،، وكأن زوجها جاء من عالم آخر، بعد أن غيبته 35 عامًا وقتها داخل الأسر.

ذكريات 32 شهرًا تحتفظ بها إيمان بكل تفاصيلها، تنتقل إلى محطة أخرى: "عشق نائل الزراعة، وحدها الدموع كانت تواسيه حينما يجلس بمفرده في أحد جنبات الأرض، عندما أصل إليه أراه يبكي".

حرية في سجن كبير

"أراه يتألم والدموع تبلل وجنتيه، كان يتمنى أن يعيش ولو لحظة واحدة مع والديه خارج الأسر".. قالتها والدموع بدأت تخنق صوتها كذلك، قبل أن تتمالك نفسها: "خارج الأسر عشق نائل الجبال، كان يأخذني لمنطقة كوبر، وأماكن نبع المياه، والأماكن الأثرية، نأخذ إبريقًا ونعد الشاي ونقضي وقتًا ممتعًا، يحب الاستماع لأنشودة: "حط السيف إقبال السيف الحق بيرجع لأصحابه"، ويتفاعل مع كلماتها.

تلك الحرية التي استنشقها نائل البرغوثي، لم تتجاوز حدود رام الله وقراها، لأن الاحتلال فرض عليه إقامة جبرية في حدود هذه المساحة، فعاش سجنًا آخر.

أتدرون أن هذه العائلة استطاعت مرة واحدة الاجتماع كاملة بعد 34 عامًا من الأسر، بعدما أفرج الاحتلال عن شقيقه عمر، وابن أخيه عاصف، والتقوا جميعًا برفقة أختهم حنان في بيت العائلة.

مواقف متعددة لا تفرُّ من حديث زوجة البرغوثي، تنتقي واحدًا منها: "ذهبنا في أحد الأيام لزيارة مسبح مائي، أول مرة كان نائل يشاهد مسبحًا".

تخرج من صوتها ضحكة عفوية: "ذهبت لعدة دقائق وعدت، فوجدته يسبح لأول مرة في حياته، بجرأة كبيرة، وكيف لم يرد الخروج من المسبح لعدة ساعات.. أنادي عليه للخروج دون جدوى، فتركته لأنني أدركت كم حرم من ذلك وأنا أنظر إليه".

صوت سيارة يقترب من البيت، إيمان تجلس على شرفة المنزل، فجأة تسمع صوت ارتطام، تنبش في تفاصيل المشهد: "خرجت مسرعة فوجدت السيارة مصطدمة بجدار المنزل، وكان نائل يتألم متوجعًا فنقلته للمشفى، ومرة أخرى قاد السيارة على الطريق العام وتلامس مع عجل شاحنة (...) كنت أذكره وأقول له، أنت ضربت السيارة فيبتسم ضاحكًا".

في إحدى المرات، صوت آهات الصراخ والوجع يفزع إيمان، انتبهت من مصدر الصوت وكان قادمًا من شرفة المنزل، لحظة لا يمكن نسيانها: "ذهبت مسرعة إليه فوجدت نائل يصرخ في إثر قرصة عقرب، سندته إلى كتفي وأخرجته للسيارة واستطعت علاجها لكوني ممرضة سابقة".

تلك الإشارات التي كان يلوح بها نائل بيده لها حينما يبتعد (150) مترًا بعد وقت كل صلاة، تروي ألف حكاية من الشوق لها، لم تطفئها 32 شهرًا من الحرية، تلك المدة لم تروِ عطشه لرؤيتها بعد.

سرعان ما حان موعد تجدد الحزن في 18 يونيو/ حزيران 2014، اليوم الذي أسرته فيه قوات الاحتلال وحكمت عليه بالسجن 30 شهرًا.

وبعد انتهاء مدة المحكومية الجديدة بعد إعادة أسره، توقعت عائلته الإفراج عنه لكن محكمة الاحتلال أصدرت حكمًا بإعادة حكمه السابق (مؤبد و18 عامًا)، واليوم يدخل نائل البرغوثي 41 عامًا خلف قضبان الاحتلال، هناك في "عالم المنسيين"، لم يسبقه أحد من البشرية إلى هذا الرقم من المعاناة، طرق 63 عامًا من عمره وما زال "سجن هداريم" يقيده، يروي حكاية تعجز الحروف عن النطق بها.

"في كل لحظة أتخيله يفتح باب البيت وأراه أمامي، السنوات تمضي ولم يبقَ في العمر مثل الذي مضى، عدنا لتبادل الرسائل عبر الإذاعات والمحامين".. تحشرج صوتها الذي غاب بين الدموع التي نابت عنها في إكمال الحكاية.

 






 

اخبار ذات صلة