فلسطين أون لاين

"بِعُشِّ الزوجيَّة".. "محمد" يُعانِقُ حياةً أوقفها السجن 19 سنة

...
الزميل نبيل سنونو (يمين) خلال حواره مع الأسير المحرر محمد عرندس
غزة- نبيل سنونو:

محمد عرندس من غزة تخرج في كلية الصيدلة قبل عقدين، وأسره الاحتلال الإسرائيلي في أوائل العشرينات من عمره، وحكم عليه بالسجن (19) سنة، وفي هذه المدَّة توفي والده دون أن يودعه، وخضع لتحقيق قاسٍ ومعاملة لا إنسانية، وعند انتهاء محكوميته أفرج عنه في أغسطس/آب 2020، ليتمكن وهو في الأربعينات من عمره من رؤية والدته الثمانينية والزواج وإعادة عقارب ساعة حياته إلى الدوران.

 

"توقفت عقارب الساعة، بدت ساكنة تمامًا والشوق القاتلُ يجري في كل عِرقٍ ووريد بي، إنها لحظاتٌ صوبتُ فيها نظري نحو الحرية، كأنني لمحتُ شعاع نور من نافذةٍ في سجن لا آدمي زجني فيه الاحتلالُ 19 سنةً قسرًا، قلت في نفسي: لن أصدق أنني خارج السجن حتى تتحسس قدماي أرض غزة وتشتم رائحة قدمي أمي الثمانينية وأزور قبر أبي الذي سبقني إليه الموت دون حول مني ولا قوة".

يصمت محمد عرندس "آخر العنقود"، الذي أسره الاحتلال سنة احتفاله بتخرجه في كلية الصيدلية، وتوقف حلم والديه حينها، مستئذنًا التوجه إلى دورة المياه، ليخفي ما أظهرته عيناه من دموع القلب، ثم يتابع لصحيفة "فلسطين":

"لا يمكن لي أن آمن مكرهم (يلوِّح بإصبع السبابة)، فليس أسهل عندهم من تمديد اعتقالي وسرقة المزيد من سنوات عمري... عضضت على أصابعي طويلًا، حتى أظفر بأمي وأتزوج من الحريَّة!".

دفع محمد الذي زُج في السجن بعمر 23 عامًا ضريبة باهظة لحبه وطنه فلسطين، ولم يغادره إلا وقد تسلل بعضُ الشيب إليه.

في "عش الزوجية" الذي يعيش فيه بغزة منذ 7 نوفمبر/ تشرين الأول 2020 مع عروسه التي جمعه بها القدر بعد تحرره، يبدو كما لو كان في حلم، قائلًا: قضية فلسطين تعيش في جيناتي، وكانت مقاومة الاحتلال جزءًا من طفولتي، واعتقلني الأخير أكثر من مرة، وفي بداية انتفاضة الأقصى سنة 2000 عندما اقتحم رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أريئيل شارون المسجد واستشهد محمد الدرة، فجَّر ذلك الغضب في عروقي.

لكن "ثالث نعمة بعد الإسلام والصحة" كما يصفها، كانت تخرجه في كلية الصيدلة قبل اعتقاله الطويل.

تعاكس بهجة بلوزة شتوية يكسوها لون السماء، يرتديها محمد، مرارة الأحداث التي مرَّ بها.

في 13 أغسطس/ آب 2001، انقضَّ الاحتلال على محمد ورفيق له قرب السياج الفاصل شرق البريج وسط قطاع غزة، وحاصرتهما نيران 10 رشاشات، فاتخذا وضعية "الانبطاح" في مكانٍ كانت تصول فيه وتجول دبابة إسرائيلية "تبدو كمبنى ضخم" للناظرين من قرب.

كأنك تشعر أن شاكوشًا يدق برأسك بينما ينهمر الرصاص كالمطر، قبل أن تغزو طائرة "أباتشي" سماء المنطقة مع أربع دبابات وجرافتين وقصاص أثر، وبقيا كذلك من الثانية عشرة والنصف ظهرًا، حتى الخامسة مساءً.

قضى محمد وصديقه هذا الوقت الطويل بين الأشواك، قبل أن يطلب منهما الاحتلال خلع ملابسهما "كما ولدتهما أمهما"، في حين يصوب قصاص الأثر قناصه نحوهما.

زجهما الاحتلال في الدبابة وهناك أطفأ جنوده السجائر بيد محمد وتظهر عليها الآثار حتى اليوم، واصطدم رأسه بمقاعدهم داخلها، وتجففت عروقه حتى تمنى شربة ماء، وعصب عينيه وقيده بـ"كلبشات بلاستيكية أسوأ مما تتوقع" لدرجة فقد معها الإحساس لفترة.

كان ذلك مقدمة لنقل الشاب العشريني للتحقيق في سجن عسقلان: "اعتمدوا على الإجهاد النفسي والجسدي الذي لا يقل فظاعة عن العنف الجسدي".

كمن استرق نفسًا بعد سباق جري، بدا محمد.

ثم بصوتٍ كما لو كان يخنقه غبار السنين، وبحركاتٍ مريرة يعكس جسده إلى الخلف ممثلًا "وضعية الموزة" التي يستخدمها السجان لإجهاد الأسير في التحقيق، متابعًا: "أيضًا الشبح على كرسي قصير ويداه مقيدتان للأسفل، وتشغيل المكيف البارد جدًّا أو الحار جدًّا، والشتم، وقلة النوم".

"قضاء الحاجة بكرامة!"

يعمل المحققون على ترهيب الفلسطيني بقولهم: "لماذا تجهد نفسك؟ ستبقى 200 يوم في التحقيق وفي النهاية ستعترف، اعترف الآن!".

49 يومًا أرهقه فيها التحقيق، وفي اليوم التاسع منها وجهه الاحتلال لما يسمى "العصافير" وهم عملاء يسعون إلى انتزاع معلومات، في أسلوب يحذر محمد الفلسطينيين من الوقوع في براثنه، وأنه لا يجوز بحال أن يتكلم الأسير مع أي كان عن قضيته الخاصة.

يتظاهر هؤلاء العملاء بأنهم "وطنيون" لدرجة أنهم يقيمون الليل ويقرؤون القرآن ويتصفحون الكتب الإسلامية، في حين بداية "الانزلاق" المحتملة كما يصفها محمد، تكمن في اللحظة التي يسألون فيها الأسير إلى أي قسم من أقسام أسرى الفصائل يريد الانضمام، قبل أن يتهموه بأنه "جاسوس" لا يريد خدمة وطنه.

تنهد محمد الذي بات في الأربعينات من عمره، وشرب ماءً لطالما اشتاق إليه، قبل أن يتابع: ثم جاء ضابط من "الشاباك" وآخر من شرطة الاحتلال ليثبت عليَّ ما جاء في التحقيق.

بقي محمد دون حكم لثلاث سنوات ونصف، وكان أسيرًا للمعاناة فيما يعرف بـ"البوسطة" التي نقلته عبرها "قوات النحشون" بين السجون مقيد اليدين والقدمين، مرورًا بنقاط توزيع تعرف بـ"المعباريم" التي تنهشها الصراصير والجرذان.

ومن مرارة هذه البوسطة أن محمد همَّ يومًا بالإضراب عن الطعام وشرب ليلتها السوائل والحليب لينظف معدته، ليفاجأ في اليوم التالي بنقله إلى سجن آخر، في حين يحتاج هو إلى قضاء حاجته التي لا يتمكن الأسير منها بكرامة في "البوسطة".

هكذا مرت الأيام، حتى طلب قاضٍ عسكري سجن محمد 32 عامًا وبعد جلسات طويلة حُكم عليه بالسجن 19 سنة.

في هذه اللحظة توقف محمد لدعوتنا إلى تناول العصير الذي يجعله السجان "بعيد المنال" للأسرى.

في عتمة السجن، اشترك محمد بسبعة إضرابات عن الطعام لأسباب متعددة بين 2004 و2017 منها مساندة زملائه الأسرى ومنهم الشيخ خضر عدنان وهناء شلبي، وفاق إجمالي أيامها الـ100، عدا عن الإضرابات الفردية.

لكن أقسى الأحداث التي وقع فريسة لها كان يوم أن شك السجان في أن ورقة بحوزته، وأنه مضغها، فاقتاده إلى قسم الجنائيين حيث لا يستطيع هناك أن يقضي حاجته إلا أمام السجان والكاميرات، إنه "موقف مهين" كما يصفه.

اضطره ذلك في 2003، إلى الإضراب الفردي عن الطعام تسعة أيام في زنزانة خاوية ليس فيها إلا فرشة وزجاجة لقضاء الحاجة! لكنهم وصلوا إلى طريق مسدود حتى حضر مدير السجن وقال له بالعبرية: "انتصرت!"، واقتيد إلى قسم عزل في سجن "إيشل".

أقسى اللحظات

في حياة الإنسان محطات مفصلية، فكيف إذا كانت في السجن؟! نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وعلى غير العادة شكل مجموعة من الأسرى وفدًا لزيارة محمد في سجن نفحة، ليبلغوه نبأ مزلزلًا.

"عادة تكون اللقاءات العادية في وقت الفورة والزيارات الرسمية في المناسبات، بمجرد أن حضروا سألتهم: ماذا حدث مع الوالد؟!".

أخفى ذوو محمد عنه أن والده خضع لعملية في القلب في نابلس قبل أعوام، لئلا يتأثر بذلك وهو الذي يحلم بأن يرى الحرية ويعوضه عن سنين الحرمان.

قطع عليه الوفد حلمه: "أعظم الله أجركم"، فلم يحتمل حتى طلب منهم المغادرة.

ما من سبيل سوى للقهر! فأقل ما ينتظره أي إنسان هو على الأقل الصلاة على جثمان والده، لكنها من أقسى اللحظات التي يجثم الأسير تحت سنانها.

بدا "اللهيب" وانعكاساته في عيني محمد قبل أن تفيض بالدمع، وينقطع حديثه، ويغادر المكان لبرهة، في منزله بمنطقة الزهراء في غزة.

وعندما انتزع الاحتلال محمد من أحضان والديه كانت أمه في الستينات من عمرها، في حين تجاوز والده الـ70 عامًا، وكانا ينتظران اكتمال تجهيز صيدليته "عرندس"، واختيار شريكة حياته، فقد جاء دوره بعد زواج إخوته التسعة، لكنه لم يتمكن من ذلك، وبيعت الصيدلية التي لا تزال تحمل الاسم نفسه في غزة.

والتهب شعوره ومعاناته في أحد المواقف القاسية، لمَّا همَّ السجان يومًا في 2004 بانتزاع رضيع من أمه الأسيرة في سجن "هشارون" بعد أن بات "لعبة القسم" في يد الأسيرات اللواتي تغمرهن غريزة الأمومة تجاه الطفل الذي لم تكن أول كلمة ينطق بها "بابا" ولا "ماما"، بل "عدد" التي يلوث بها مسؤول السجن يوميًّا مسامع الأسرى.

اعترى الشعور بالعجز الأسرى في حين كان السجان يرش الأسيرات بالغاز، لم يكونوا يملكون سوى قرع الأبواب والتكبير.

"كبد العمر"

عاد محمد بابتسامته التي يخفي بها سنين من المعاناة، راويًا كيف كان في كل عيد أو رمضان يجهز مع زملائه بالإمكانات المتواضعة ما يخيل لهم أنهم يحتفلون، من الكنافة التي صنعوها من خبز ناشف وما تيسر من الجبن التي يجمعونها على مدار ثلاثة أسابيع. "كنا نضحك على حالنا، ونقلب البلاطة ونعمل الكنافة، والمعكرونة اللي بيجيبوها ننقعها مع الحليب ونعمل ما يشبه العوامة".

كل منهم يشارك اللحظات في السجن جسدًا، وروحه تتوزع عند أهله ومحبيه.

صحيح أن الزمن بدا كما لو كان متوقفًا في الأسر، لكنه تمكن من الحصول بكالوريوس في التاريخ، وماجستير في الدراسات الإسرائيلية، ودبلوم تأهيل الدعاة بامتياز.

مرت السنين على مرها، وحل عام 2020 الذي انتظره محمد طويلا لانتهاء محكومية سرقت كبد عمره. "الأسير يتعلق بالخارج في أشهره الأخيرة بالسجن، ويصبح في نفسية مودع، وينظر لزملائه كضيف، ويعيش حالة من الألم الزائد لأنهم لن يتحرروا معه، وفي الوقت نفسه يتوق لرؤية أهله، والشارع، إنه شوق قاتل، لدرجة أنك تشعر أن الوقت لا يسير".

"هذه هي الولادة الحقيقية" هكذا يصف خروجه من السجن في 22 أغسطس/آب الذي جاء بظروف استثنائية تفرضها جائحة كورونا، فكان الإسعاف في انتظاره عند حاجز "إيرز" بيت حانون بدلًا من أهله وأصدقائه، لنقله إلى الحجر الصحي.

مثلت هذه الفترة "مرحلة نقاهة" لمحمد وتوجت بنتيجة "سلبي" لفحص كورونا "غير مصاب"، ودقت عقارب الساعة للقاء والدته الثمانينية.

كسهمٍ اتجه نحوها، هبط أرضًا، صبّ قبلاته على قدميها، احتضنها كروح انغرست في جسد، بللتهما دموع الفرح والغضب على من حرمهما هذا العناق وأراد تجفيف منابع الحنان، تمنيا لو أن الوالد حاضر، شعرا بروحه، وغاب جسدًا.

هدأ روعهما لكن ظل الشوق يغمرهما، وأرادت والدته التي تمثل "أجمل هدايا القدر" لمحمد، العودة إلى لحظة ما قبل أسره، لتبحث له عن عروس.

أنار شعاع الخطبة بعد 22 يومًا من الإفراج حياة محمد، ونبض قلبه ووالدته بالزغاريد، وحلقا كطير تحرر من قفصه للتو، قبل أن يتزوج في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.

لا يحب محمد مصطلح "القفص الذهبي" لأنه يذكره بالسجن، ولأنه يرى في الزواج "معاني كثيرة للحرية، تجعلني أكتشف أنني كنت فاقدًا الكثير من الأشياء".

"جمال الأم ومحبتها وجمال الزوجة ومحبتها وإخلاصها يكملان بعضهما بعضًا (...) وجدت معنى السكن".

سيكمل محمد بناء مستقبله بعد أن عانق الحياة مجددًا، بإكمال درجة الدكتوراة، معنونًا مشور حياته بأنه "مسيرة خدمة الشعب الفلسطيني".

126886654_1754185731403606_3460070584660501743_o.jpg
 

50ccca4d-8d28-4f12-bd7b-5b2d859edbd2.jpg