فلسطين أون لاين

19 عامًا ودورة طويلة في التنقلات بين سجون الاحتلال

سامر درويش.. مُحرَّر بعمر الـ46 يلتمُّ شملُه بسبسطية

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

وخزات متتابعة على كتفه، تفزع سامر درويش من نومه؛ "اصحى يا جار.. اصحى يا جار"، فتح جزءًا من إحدى عينيه ليجد جاره في غرفته، "انت شو اللي جايبك على بيتنا؟"، أنفاس الجار متقطعة "جيش الاحتلال بده اياك!"، نهض سامر مفزوعًا يهم بالقفز من شرفة المنزل من الطابق الثالث بعد أن وضع قدمًا في الخارج، وقبل أن يقفز يتفاجأ بقناص إسرائيلي يشير بيده وفوهة البندقية موجهة نحوه "ادخل .. ادخل".

استدار للخلف، والحيرة ترسم طريقها في ملامحه وكأنه وقع بين كماشة الجنود، "تغلبش حالك ..البيت محاصر، وأخدوا كل أهلك" ..كلام جاره جعله يكف عن محاولته الهرب، حينما طرقت عقارب الساعة الواحدة فجرًا في الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2001م.

قيده جنود الاحتلال، وعصبوا عينيه، ثم فتشوا المنزل، ووضعوه في المركبة العسكرية على بطنه، ليجد نفسه في مركز تحقيق "بتاح تكفا"، في غرفة بها أربعة محققين، ينفث أحدهم الدخان منتشيًا بهذا "الصيد" الثمين (هكذا تقول ملامحه)، كانت نظرات المحققين تفصل سامر من رأسه إلى أخمص قدميه، السكون ظل يفترش المكان، قبل أن يخرج أحدهم عن صمته "ايش اسمك؟ ايش بتشتغل؟".

ثم قام أحدهم، وأحضر ألبومًا كبيرًا وبدأ يقلب صورًا أمام نظر سامر، وكانت لمقاومين استشهدوا، والصور تظهر لحظات استشهادهم واغتيالهم، "ليش أتفرج؟"، يرد المحقق وهو يقلب الصور "ما عليك اتفرج وبس"، كان يسمي كل شهيد باسمه "هدا اللي قتلناه، وذاك اغتلناه ..الخ"، استمر الامر 10 دقائق، لم يحصل المحقق على ضالته فسامر أخبره أنه لا يعرف هؤلاء الأشخاص ولا تربطه أي علاقة بهم.

"انتزاع اعتراف"

انتهت الجولة الأولى، أنزل إلى زنزانة عزل انفرادية، وفي اليوم الثاني، بدأت جولة تحقيق استمرت سبع ساعات أخرى، يحاولون أخذ اعتراف منه لإغلاق ملفه، "انا بعرفش حاجة" كلامه أثار غضب أحد المحققين الأربعة، أخرجه عن طوره فضرب بيده الطاولة ضربة اهتز صداها في المكان، لكن لم يهتز سامر الذي يقف مثل جبل صلب، في المقابل علامات الغضب تسلك طريقها بملامح المحقق، خرج عن هدوئه بصراخ متواصل "أنت واحد كذاب .. كذاب .. كذاب"، قالها بلغة عربية بلكنة عبرية.

لتبدأ جولة من حوارات المحققين مع بعضهم وصراخهم – "احنا بدنا ننظفك .. بدي تحكي كل شي عملته"، يقول أحدهم، فيرد عليه آخر "سيبك منه؛ خليه "يخمج" بالسجن على إيش مستعجلين؛ بكرا لحاله راح يحكي"، يدخل ثالث على خط الحديث بعد ضحكة استهزاء "بدهوش يخرفنا"، كانت عينا سامر تتحركان وتجولان بين نظرات المحققين، التي بدت مثل وحش غاضب يريد الانقضاض على فريسته، ليأتي له أحدهم من آخر السطر ويختصر كل الكلام الذي لم يحقق مبتغاهم "انت فجرت عبوة، واطلقت نار"، لم يعترف بذلك، فدخل إلى غرف مركز التوقيف، وفيها أرسل له الاحتلال عملاءً يسمون "عصافير" مهمتهم انتزاع معلومات منه فشل المحققون في انتزاعها.

19 عامًا مضت على أيام التحقيق، تجرع فيها سامر درويش مرارة السجن، غاب عن أهله وبلدة سبسطية شمال غرب نابلس بالضفة الغربية المحتلة، مرت السنوات ثقيلة على ملامحه التي تغيرت معها، فذلك الشاب الذي واجه المحققين بعمر "الزهور" ولم يتجاوز 27 عامًا، الآن تحرر وقد طرقت سنوات عمره الـ46، قائمة الحرمان هنا طويلة، الزواج، التعليم، البعد عن الأهل، التغييب القسري .. الخ)، أفرج عنه قبل ايام، كانت صحيفة "فلسطين" تستمع إلى بطولة الأسير سامر درويش عبر الجانب الآخر من الهاتف.

لا زالت ذاكرته تطير عند أيام التحقيق، "أدخلت للغرف، كنت أعرف أن هناك "عصافير" وسيجمعون معلومات، فخططت للاعتراف على شيء، غير ما يريده المحققون".

يذكر تلك الحيلة "أول ما دخلت الغرف كان أولئك العصافير، يطعمونني ويتوددون لي، يعرضون علي هاتفًا محمولاً لأحدث أهلي، في النهاية اعترفت لهم أني مخبئ عبوات ناسفة أسفل درج المنزل وكنت معنيا في ذلك لأحصل على حكم مخفف، وفي اليوم التالي أحضرها جنود الاحتلال وصعدت لغرف المحققين، وانتهت فترة شهر ونصف عصيبة في التحقيق ثم نقلت إلى سجن "مجدو".

"في الخارج كانت وتيرة الانتفاضة تتصاعد، أتابع الأحداث الجارية، لا يهمني ماذا سيحدث معي، حتى بدأ الحديث عن المحاكمة وعينت محاميا وتوقعنا أن يكون الحكم فقط خمس سنوات.

شهدت الضفة الغربية اجتياحات لقوات الاحتلال لمدن عديدة، وبدأت الأحكام التي يصدرها بحق الأسرى أكثر "ردعًا" بالنسبة له، الأحكام فيها مرتفعة، وهذا ما غير حياة سامر "تفاجأت في الأول من أكتوبر/ تشرين أول 2003م، بإصدار حكم بسجني 20 عامًا، كان الأمر صادمًا لم أتوقعه، فقدم المحامي استئنافًا وخفضته المحكمة عامًا واحدًا لم يغير شيئا" وهكذا بدأت رحلة طويلة داخل الأسر، يقف أمامه حكم طويل عليه تجاوزه.

"أمضيت الأعوام بالصبر والقناعة بأني اسير لدى محتل، وهذا يتطلب أن تكون عزيمتي ونفسيتي كبيرتين"، لكن لم يخلُ الأمر من المنغصات "كانت وحدات المتسادا بكلابها المدربة وأسلحتها، تقتحم غرف السجون فجرًا، ينغصون حياتك حتى وأنت نائم بمكان ضيق، يضيقون الخناق عليك أكثر يتم ذلك كل أسبوعين أو كل شهر".

محطات وتنقلات

في الأسر أشخاص زرعوا محبتهم في قلبه، فحُفرت أسماؤهم في جدرانه "الشهيد حمزة أبو الهيجا؛ كان من أصحاب النفوس الشامخة، إنسان مضحٍ صاحب همة وعزيمة، لم يرضخ للاحتلال، صلب المواقف لا يرضى بالإهانة، كانت علاقتي مميزة به وتقربت منه على روحه الرحمة والسلام، ترك أثرًا إيجابيًا في نفسي".

أما الأسير نائل البرغوثي صاحب أطول فترة حكم بالتاريخ والبالغة 41 عامًا؛ فأيضا قابله المحرر سامر، أمضى معه فترة لا يأفل وهجها من ذاكرته، امتلأ صوته بالشجون والعرفان حينما ذكر اسمه "رأيته بسجن النقب عام 2017م، حينما تنظر إليه فإنك تنظر إلى قمة، تنظر إلى صخرة تحطمت عليها كل مؤامرات السجان، لم يهزمه الاحتلال، لا بالتنكيل ولا بالمؤامرة".

تحط رحال حديثه هنا، "لما أعاد الاحتلال أسر محررين أُفرج عنهم بموجب صفقة "وفاء الأحرار" وضعهم في خيام في سجن النقب، ولما جلست معه كان يحدثنا عن أوضاع السجن، أين وصلت (...) كنت أنظر إليه بتعاطف وحزن فهو أسير تحرر ثم عاد، لكن همته العالية وصبره وممارسته الرياضة تعطي دروسًا للشباب".

تتعجب، من هذا الأسير، كيف يحفظ دورة تنقلاته بين السجون التي لا يمكن استيعابها، لكن ذاكرته تستوعب "أيامها المرة" بدقة "تنقلت كثيرًا بين تلك السجون"، في صوته مسيرة معاناة طويلة "مكثت في "مجدو" لسنتين، ومثلها في "هداريم"، ومثلها في "هشارون"، و"شطة" أربع سنوات، ثم عاما ونصف العام في "رامون"، وأمضيت أسبوعين في "نفحة"، وسنة ونصف السنة في "النقب"، ومثلها في "جلبوع"، وعدة أيام بمركز "بتاح تكفا"، وعدت يوما لجلبوع"، وهكذا ربما تتيه بين تلك الدائرة التي يسردها، أما هو فيرويها وكأنه يقرأ عن ورقة.

أطلق العنان لضحكة ممزوجة بوجع تلك التنقلات معلقًا "الأمر له تأثير، هذا نوع من القمع، تخيل تقضي فترة في سجن تتعرف على أسير، تحبه ويحبك، ويهون عليك مرارة البعد عن الأهل والأحباب، ثم يبعدك عنه، لكن الأمر أصبح اعتياديًا لأننا نتقابل في سجن آخر".

"موقف لا أنساه!".. جذب حديثه إضراب شارك فيه سنة 2012م، في التفاصيل موقف أذهل السجانين "مضى 27 يومًا على خوضنا الإضراب عن الطعام، أحد الأسرى سقط مغمى عليه داخل السجن من شدة الأعياء، صرخت، ناديت على السجانين لا أحد يسمعني، فحملته وسرت به مسافة 300 متر حتى وصلت (ما تسمى) عيادة السجن، تعجب أحد الحراس وقال: "كيف استطعت حمله وأنت مضرب عن الطعام؟".

في بلدة سبسطية، بدأ سامر رحلة التعرف إلى الحياة التي فصله السجن عنها، وعلى الناس والشبان، الذين كانوا أطفالاً حين أسره، "تغيرت مظاهر كثيرة في الحياة لكن الاحتلال ما زال موجوداً ورفاقي الأسرى يعانون".