فلسطين أون لاين

روت لـ"فلسطين" تجربتها بعلاج مصابي كورونا الشباب

شريهان.. طبيبة ترسم صورة أخرى "للمعركة" داخل "العناية المركزة"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

"هناك ستكون بمفردك، ستصارع المرض وحدك، لن تجد أحدًا من أفراد عائلتك ولا من أصدقائك حولك، أنت هنا فقط تقاتل بمفردك"، الأصوات المنبعثة من الأجهزة الطبية لا تتوقف عن إصدار إشاراتها، أنفاس المرضى تتعارك وتتسابق للوصول لقمة مجرى التنفس هربًا من فيروس يملأ طريقها، عيون الأطباء لا تغفو داخل "العناية المركزة" القسم الأكثر حساسية في مواجهة فيروس "كورونا".

قبل غفوة قصيرة بعد معركة "طويلة" مع أنفاس المرضى المختنقة، رن جرس استدعاء سريع لطبيبة العناية الشابة شريهان حنيف، فالمريضة التي وصلت للتو تجر خلفها 56 عامًا من عمرها، تشهق وتزفر 50 نفسًا في الدقيقة، وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، تعاني نقصًا حادًّا في الأكسجين فنسبته لا تتجاوز 80%.

أمسكت الطبيبة صورة الأشعة وعينها على التاريخ المرضي، لتجد علامات التهابات حادة في كلتا الرئتين، للمريضة التي لم تعانِ أيَّ أمراض مزمنة سابقًا، على الفور اتخذت قرارها إدخالها للعناية المركزة، إلا أن المريضة رفضت "بضلنيش لحالي بالغرفة.. بدي بنتي تكون معي"، ابتسامة خاطفة من الطبيبة، فالخوف يضرم ناره في قلبها "معناش وقت يا حاجة، بس حكون معك طول الوقت، ووقت ما تحتاجي بنتك -علمًا بأنها مصابة بكورونا وتوجد في القسم الأرضي بمستشفى غزة الأوروبي- حجيبلك إياها".

مضت عدة أيام، الطبيبة تراقب حالتها الصحية، تجري جميع التدخلات العلاجية اللازمة، ووسط ذلك حدثت انتكاسة مفاجئة في حالتها، "هل ستكون النهاية؟ ونفقدها!"، الطبيبة لم تعلن الاستسلام وتنكيس رايات الحزن، غيرت جهاز التنفس، المريضة بدورها كانت تتشبث بالأمل وبالحياة، تستجيب لأوامر العلاج، فحطت الفرحة أخيرًا في قلب الطبيبة، فقد تماثلت للشفاء وأخرجت من العناية لأقسام الرعاية العادية.

شحنة معنوية إضافية أعطت الطبيبة حافزًا كبيرًا للمواصلة في أول أيامها.

طبيبة العناية شريهان حنيف، (26 عامًا)، من حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، تخرجت في كلية الطب بالجامعة الإسلامية عام 2018، وعينت في شهر إبريل/ نيسان 2020 بقسم العناية المركزة بمستشفى الشفاء، ونهاية سبتمبر انتدبت لمستشفى غزة الأوروبي للعمل فيه على جولتين متقطعتين أمضت في كل جولة سبعة أيام، وستعود لجولة أخرى بعد عدة أيام، روت تجربتها الأولى لصحيفة "فلسطين".

مرحلة صعبة

"دون تردد قبلت الذهاب لعلاج مرضى كورونا في 25 سبتمبر/ أيلول 2020 (...) قبل أيام انتهت مرحلة صعبة ومخيفة، فأمامك مرض شديد العدوى، يتطلب اتخاذ كل إجراءات السلامة"، تجربة وعمل جديد لم تعتَدْه الطبيبة شريهان، فقد كانت الأنثى الوحيدة بين فريق طبي من الذكور، فكان "لا بد من إخفاء الخوف والتوتر وأجواء المكان الجديدة المرهبة، والعمل مع المرضى بتركيز".. وضعت تلك المشاعر وراء ظهرها لا تريد "أن تخذل المرضى وأهاليهم".

"أصيب قائد الفريق بفيروس كورونا، وأصيبت عائلته، فلما عدت بالفترة الثانية شعرت بالخوف من غيابه، والصدمة الأكبر أننا أدخلنا شابين بعمر (33-36 عامًا) لغرفة العناية كانوا يتمتعون بصحة جيدة سابقًا، ولا يعانون أمراضًا مزمنة".

ما زالت متأثرة بمشهد إدخال الشباب لقسم العناية "كانت حالتهم صعبة، عانوا صعوبة في التنفس، وارتفاع درجة الحرارة، ونقص أكسجين الدم، وإرهاقًا عامًّا، وتعبًا، وضعوا على أجهزة تنفس مساندة، كذلك أجرينا صورة لأشعة الصدر أظهرت وجود التهابات شديدة في كلتا الرئتين، وكانا أول شابين تطلبت حالتهما دخول العناية، وهذا ما يزيد مخاوفنا على أبناء شعبنا، فالفيروس لا يستثني أحدًا كبيرًا أو صغيرًا".

"تخيل إنك تروح تلاقي شباب داخل العناية".. صدمة كبيرة زادت التحدي في قلب الطبية الشابة، عن حالتهم الصحية، رحلت بصوتها للحظة وقفت بها الطبيبة حائرة أمام أولئك الشباب "الأمر كان صعبًا، لم نعرف سبب الأعراض، لكن حالتهم بدأت بالتحسن والاستجابة، إلا أن واحدًا منهم تأثر كثيرًا بعدما أصيبت زوجته بالفيروس، ولدي أطفال، يريد الاطمئنان أين ستذهب؟ ومصيرها؟".

تذكرها للموقف صاحبه ضحكة عبرت على حديثها قبل أن تتلاشى بسرعة "بتقدرش تسيب المريض لازم ترفع من معنوياته، كنا نخليه يكلم زوجته على تطبيقات الإنترنت".

"صراع.. ونهاية مأساوية"

في أكتوبر/ تشرين الأول، شاب يبلغ من العمر (27 عامًا) أدخل العناية المركزة، وكان يصارع المرض بكل قوة ليعود لأطفاله، يفتقدهم ويرغب برؤيتهم، هي اللحظة الأصعب التي مرت بها الطبيبة "أول ما جاء إلى العناية، كان وضعه جيدًا ويتجاوب معنا، لكنه يعاني السكري ولديه مرض مزمن بالكلى متعايش معه منذ زمن، يتنفس وهو مستيقظ عن طريق أجهزة مساعدة".

"نفسي أشوف أولادي.. بدي أشوفهم"، يلح المريض على الطبيبة، التي تحاول إعطاءه دفعة معنوية أخرى "تقلقش حتصير منيح وتروح عندهم طول ما أنت بتتبع التعليمات".

بعد عدة أيام، وكأنه رفع راية الاستسلام أو أنه أنهكه المرض، "يومها، حالته بدأت تسوء أكثر، ما زالت كلماته تتردد في أذنها "شكلي يا دكتورة، مش حطلع منها.. حموت".

- لازم تطلع منها، قاوم عشان أولادك وعيلتك.

لكن هذه المرة لم تفلح محاولات الطبيبة المعنوية، فالفيروس قد هشم رئتي الشاب واجتاحهما، "انتهت فترة دورتي الأولى، وبعد يومين وصلني خبر وفاته (...) حزنت كثيرًا وكان الأمر صادمًا تمنيت لو عاد لأسرته وعاش بقية حياته معهم".

في داخل العناية المكثفة، هناك صراع بين الفرح والحزن، فرح على تحسن حالة، أو حزن على وفاة مريض، أعاد هذا المشهد روح الفرح إلى صوتها الذي غرق في مرارة الموقف السابق "وصلنا مسن يبلغ من العمر (72 عامًا)، مكث في العناية مدة أسبوعين على أجهزة تنفس مساندة، وكانت زوجته المصابة تأتي إليه يوميًّا وتعتني به وتطعمه، وتحسنت حالته تدريجيًّا وخرج من العناية".

ما السبب، تحسن كبار بالسن أحيانًا، وتدهور أوضاع شباب؟ رسمت علامة تعجب بصوتها، غابت فيه إجابتها قليلًا: "ربما الأمر متعلق بمدى الاستجابة للتعليمات والبرتوكول العلاجي، مثلًا أن ينام على جنبه، بطنه (...) هناك مرضى تصيبهم العصبية بعد إصابتهم بالفيروس، فيرفعون أجهزة التنفس، فتنخفض معه نسبة الأكسجين إلى 40%، وهناك من هم متعاونون أكثر".

تضحك: "لكن الحقيقة، لا نعرف السر، هل تغيرت جينات الفيروس بغزة؟".

العمل داخل العناية

عن صعوبات العمل داخل العناية المكثفة، ارتشفت ماءً قبل أن تواصل: "أتدري؛ نحن لا نغفو دقيقة واحدة طوال وجودنا في غرف العناية التي تضم كل واحدة 12 سريرًا وعددها ثلاث غرف بمستشفى غزة الأوروبي، كذلك لا نترك المرضى يجب أن يبقى طبيب على الأقل يراقب بعينه أوضاع المرضى".

تمضي الطبيبة شريهان، محاربة بردائها الطبي: "الشفاء من الله يجريه على أيدي عباده، نحن وسيلة من الله لشفاء هؤلاء المرضى".

تغمر صوتها ابتسامة "راضية" وفي حديثها مرارة ساعات طويلة من التعب "قسم العناية ليس كالعمل بأي قسم آخر، لأنه يجب بقاء المريض تحت المتابعة الحثيثة، نتعامل مع حالات حرجة شديدة الخطورة، يحتاج لتركيز شديد وسرعة في اتخاذ القرارات السليمة، تحت الضغط، والعمل مع مرضى مصابين بكورونا له خصوصية في التعامل، فيتم وضعهم على الأجهزة المساندة، ليكون المريض بكامل وعيه، لذا ينتابه شعور بالتوتر، والقلق، والعصبية".

الملابس الوقائية، التي تقيد حركة الطبيب داخل قسم العناية فترة طويلة، متعبة للغاية لهذه الطبيبة "لكننا نضطر إليها لأن احتمالية الإصابة بالفيروس مرتفعة بسبب الاحتكاك بالمرضى وتقديم العناية لهم من قرب شديد، رغم أن هذا كله مرهق إلا أننا مضطرون لتحمله"، وما زالت هذه الطبيبة تحارب مع فرسان الرداء الأبيض، في مقدمة الخطوط الأولى.