يكاد جميع السياسيين والكتاب والمثقفين وأصحاب الرأي يتفقون على أنه لا تفريط بالثوابت الفلسطينية، إذ إنها الجدار المتين والحصن الأخير الذي لو سقط؛ سقطت معه القضية الفلسطينية برمتها، ومن البديهي أن لكل شعبٍ أو أمةٍ ثوابتَ راسخة ومعتقدات صلبة، لا يمكن تجاوزها أو الانتقاص منها، فهي قيمٌ سامقة ومفاهيم راقية ارتضتها الشعوب كمُثلٍ عليا تسعى للحفاظ عليها إن كانت مكتسبة بفعل حرية الأوطان، أو تكافح وتبذل الغالي والنفيس لتحقيقها إن كانت مُفتقدة بسبب احتلالٍ أو عدوان، وذلك من خلال تعزيزها في قلوب الأجيال جيلاً بعد جيل، كي لا يتم تمييعها أو طمسها مع تقادم السنين وتتابع الأعوام.
لكنها -أي الثوابت- باتت اليوم مادة للاستهلاك الإعلامي وأحاديث العلاقات العامة يتغنى بها الكثير من الساسة والكتاب والمثقفون كنوعٍ من أنواع الترف الفكري؛ يمارون بها الناس ويدغدغون بها العواطف ويُجاملون بها نظراءهم من القادة، رغبةً في تحقيق مكتسبات حزبية موهومة على حساب قدسية القضية الفلسطينية وعمقها في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبذلك أصبحت الثوابت لدى البعض أشبه بسلعة يتم التلاعب بمضامينها وفق الحاجة في إطار المنافسة السياسية الحزبية، بهدف اقناع الجماهير "داخلياً وخارجياً" بجدارة وأحقية الفصيل بقيادة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، عبر تمييع الثوابت ومسخ المبادئ وصولاً إلى إذابة الفروقات بين مشروع الجهاد والمقاومة ومشروع الانبطاح والمساومة.
يظهر العوار والقصور لدى كثير من السياسيين والنخب الفكرية عند إنزال هذه الثوابت على الأحداث والنوازل السياسية بشيء من السطحية والبرود والورع "الكاذب" الذي لا يتناسب وحجم انتهاك تلك الثوابت؛ فيما يمكن تسميته بـ (الإرجاء السياسي)، فـ "المرجئة" هي أحد الفرق الضالة التي تنتسب إلى الإسلام، قالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر بعد ذلك، لأن الحكم عليه موكولٌ إلى الله وحده يوم القيامة، والعقيدة الأساسية عندهم عدم تكفير أي إنسان حتى وإن أتى بفعلٍ لا يحتمل سوى الكفر؛ ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين، والإرجاء بمعناه الشرعي أنه "لا يضر مع الإيمان معصية" أو أن "الإيمان مجرد قول اللسان، وإن عري عن الاعتقاد".
ومثل هذه المفاهيم "الإرجائية" بتنا نراها اليوم واضحة جلية في عالم السياسة والحكم، من خلال ما يمارسه البعض من مداهنة وتملّق وتحايل على الثوابت؛ رغبةً في إرضاء الجماهير أو نفي صفة الحزبية والانحياز عمن صدروا أنفسهم للتنظير الفكري والسياسي، فيكفي أن تكون قائداً فلسطينياً -في عُرفهم- كي تنال النياشين والأوسمة والألقاب، حتى وإن كفرت بالثوابت الفلسطينية فيما بعد، وطعنتها في الظهر أو القلب أو الخاصرة، فلا يضر مع "الفلسطينية" خيانة، ولا يعيب مع الحزبية بيعٌ أو تفريط، حتى أصبح من خانوا شعبنا بتوقيع اتفاقية أوسلو المشؤومة وكل ما ترتب عليها، فباعوا فلسطين لليهود المحتلين وتنازلوا عن 78% من أرضها المقدسة، واعترفوا بأحقية اليهود في أرضنا، وفرطوا في حق العودة، واعتبروا التخابر مع العدو فعلاً مقدساً؛ أصبحوا أبطالاً ترفع لهم القبعات ورموزاً تنكس لهم الأعلام ومُثلاً عليا يُحتفى بهم في كل عام!
هؤلاء "المثقفون الجدد" لا يكُفّون عن السب والشتم والتخوين والتحقير بالخونة الصغار، ممن يتجسسون على المجاهدين ويقدّمون المعلومات للعدو "وهم لذلك مستحقون"، فيتسببون بالأذى والقهر، وبالظلم أحياناً لعائلاتهم وذويهم وأقربائهم ممن لا ذنب لهم حتى يُؤخذوا بجريرة أبنائهم من العملاء، بيد أنهم -أي المثقفون الجدد- يعملون على تقديس الخونة الكبار، عبر ترميزهم وتقديسهم ووصفهم بأوصاف الكمال والجلال، على أنهم حُماة الوطن وصنّاع المجد ودروع الشعب، بيد أنهم لو تعرضوا لشيءٍ من الظلم أو بُخسوا حقهم في خلافٍ على "شبرٍ" من أرضٍ مع جيرانهم مثلاً، لملأوا الدنيا صراخاً وعويلاً، ولأوسعوا خصومهم ذماً وتقريعاً، كونهم يكافحون وينافحون لتحصيل مصلحة خاصة لا مجال فيها للمجاملات ولا مساحة عندها لأنصاف الحلول، بينما أرض فلسطين المقدسة التي باركها الله لا بأس أن تخضع للمزاجات والأهواء والموازنات السياسية والمصالح الحزبية!
الثوابت يا قوم هي أسسٌ راسخة ومعتقداتٌ أصيلة لا تخضع للنقاش ولا يُقبل فيها وجهات النظر، ولا يُعذر فيها بجهل، وهذا ليس ضربٌ من الغلو والتنطّع، ولا سبيلٌ للإقصاء والتفرّد؛ وإنما هو إرساءٌ للمبادئ التي اتفق عليها الشعب -على اختلاف توجهاته- بحسه الغريزي الصادق في الحب والانتماء، ورغبته الجامحة في التحرير والعودة، والتي بذل شعبنا في سبيل تعزيزها في عقول وقلوب الأجيال تضحياتٍ جسمية من دماء القادة والمجاهدين وأبناء الشعب الصابر على مدار عقود الجهاد والكفاح الفلسطيني أملاً في تحقيق حلمه في التحرير وكنس الاحتلال البغيض.
فمن تنازل عن فلسطين خائن، ومن فرط بالقدس ناكث، ومن تخابر مع العدو عميل، ومن لاحق المجاهدين حقير، ومن تهاون في حق العودة غادر، أياً كان اسمه ومهما بلغ منصبه وذاع صيته، فثوابتنا ليس بضاعة للبيع والمتاجرة، ومبادئنا ليست مادة للمناكفة ولا المنافسة، وصدق الشاعر حيث قال: "من باع شبراً من بلادي؛ بعته وبلا ثمن".