بشكل غير مسبوق صوت الشعب الأمريكي ضد ترامب حتى حطم التصويت لجو بايدن الرقم القياسي الذي حققه أوباما، جاءت نتيجة التصويت على هذا النحو رغم ما مثله ترامب من تحيز غير مسبوق وصل إلى حد التطرف للاحتلال الصهيوني، فلقد أقدمت إدارة ترامب على خطوات كانت بالنسبة للصهاينة حلما، ورغم العلاقة الوثيقة والارتباط التاريخي بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة والكيان الصهيوني، إلا أن أيًّا من الإدارات الصهيونية لم تقدم على ما أقدمت عليه إدارة ترامب من تكريس الرؤية الصهيونية اليمينية لحل النزاع الصهيوني العربي واقعًا، تبدى جليًّا من خلال صفقة القرن التي خططها وهندسها صهر ترامب ومستشاره كوشنر، ورغم المليارات الكثيرة التي أرغم ترامب العربية السعودية على دفعها، ورغم إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ورغم اغتيال قاسم سليماني، ورغم إغلاق مكتب منظمة التحرير وقطع المساعدات عنها، ورغم قطع المساعدات عن الأونروا، رغم كل ذلك إلا أن الشعب الأمريكي قال "لا" قوية لسياسات ترامب. الغريب في الأمر أن ترامب كان يعمل بقوة حسب اعتقاده من أجل مصلحة الشعب الأمريكي، وكان شعاره الدائم "لِنُعد لأمريكا عظمتها"، ورغم ذلك لفظه الشعب الأمريكي وفضل بايدن الديمقراطي الذي لا يزال يدعم حل الدولتين، ويرفض سياسات ترامب ضد السلطة الفلسطينية، ولكن بايدن يدعم بكل قوة "دولة إسرائيل" ويدعم الحفاظ على تقدمها العسكري والتكنولوجي والاقتصادي، ويؤمن بالحل السلمي على هذا الأساس.
الأشد غرابة أن من دعم ترامب بكل قوة بعض الدول العربية وانصاعت لكل أوامره رغبا وليس رهبا بل وأيدت كل خطواته تجاه القضية الفلسطينية ذات النكهة الصهيونية، وأظن أن من أشد الناس حزنا على خسارة ترامب تلك الدول، والسبب أنها بدأت بمشروع في المنطقة لم يكتمل، وكان في مقدمة الدول العربية التي انساقت راغبة لنزوات ترامب، دولتان عربيتان كانتا تحلمان بأن يجعلهما هذا المشروع المسخ زعيمتان صغيرتان الي جانب الزعيمة الكبرى " إسرائيل" بعد أن جعلتا من "إسرائيل" الصديق الحامي وشكلتا معها ومع كوشنير بزعامة ترامب حلفا هجينا يسقط كل القيم والأعراف العربية وأواصر الدين والتاريخ المشترك للأمة العربية، وقد صيغت فلسفة هذا الحلف من مزيج مشوه من التاريخ المزور، والأفكار الشيطانية، والمصالح القذرة، وبني هذا الحلف على عين ترامب، وتخطيط كوشنير، وتنفيذ بعض من بقايا صعاليك الأعراب، وقلة ممن يطمعون بفتات المائدة المتناثر.
لا أظن الشعب الأمريكي أسقط ترامب لسياسته الخارجية التي تعرضنا لبعضها في منطقة الشرق الأوسط، ولكن الشعب الأمريكي أسقط ترامب لأنه أهدر القيم الأمريكية المستقرة منذ عقود من الزمن، وتعامل معها بمنطق التاجر الذي لا يقيس الأمور إلا بمنطق الربح والخسارة، فألغى قانون الضمان الصحي، وأهمل الطبقة الفقيرة، وعادى الصحافة الحرة، واحتقر المهاجرين، وقلل من شأن ذوي الأصول الافريقية، وخرج عن الأصول والأعراف السياسية الأمريكية في الحديث عن الإدارة الأمريكية السابقة، وتجاوز أصول العمل الدبلوماسي في التعامل مع رؤساء الدول، وتصرف بعدم لباقة مع فريقه الرئاسي، فعزل وزير خارجيته السابق من خلال تغريدة على تويتر، وطرد كل من خالفه الرأي من إدارته، ولم يلق بالًا لرأي مستشاريه باستثناء صهره الاثير كوشنير، كل ما سبق جعله يبدو أمام الشعب الأمريكي كمن يذهب بأمريكا نحو الدكتاتورية، وهنا قرر الشعب الأمريكي أن يقطع عليه الطريق فكان هذا السقوط المدوي "للظاهرة الترامبية".
ولكن هل نفرح نحن الفلسطينيين بهذا السقوط؟
حسب اعتقادي الجواب نعم، ليس أملًا في بايدن، ولا اعتقادًا بأن بايدن سيصلح من أفسده ترامب، ولكن لأن سقوط ترامب على الأقل شكل ضربة قوية للحلف الشيطاني الذي كان ينمو سريعا ويتمدد بين الدول العربية، لضمان دخول أكبر عد ممكن منها تحت مظلة هذا الحلف الذي أسقط الحق الفلسطيني، وأهدر "التضامن العربي" على ضعفه، وشيطن المقاومة الفلسطينية، حتى وصل الأمر به للنيل من القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني، في سابقة لم تراع جهاد وتضحيات شعبنا منذ مائة عام، نعم نسعد بسقوط ترامب لأننا كفلسطينيين كنا المتضرر الأكبر من سياساته، وسقوطه يلزمنا كلنا كفلسطينيين أن نبدأ بترميم الضرر الذي ألحقه بنا، ومن أوجب واجباتنا في هذا السياق ان نحقق الوحدة الوطنية، وألا نرهن أنفسنا لسياسة خلفه بايدن، فلم يعد شعبنا يقوى على اللهاث خلف السراب، ولا أقل من أن نظهر موحدين أمام العالم في الفترة المقبلة، ولنطالب بحقوقنا كشعب موحد، وهذا فقط ما يمكننا من انتزاع حقنا الذي تبعثر بين رهانات السياسة ومآسي الانقسام.