فلسطين أون لاين

النائبة جميلة الشنطي تروي لـ"فلسطين" أحداثًا لم توثِّقها الكاميرات

"المسيرة النسائية" في ذكراها الـ14.. فارسات أذَبْنَ "غيوم الخريف"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

طائرات الاحتلال المروحية (الهليكوبتر) تحوم في السماء، ودباباته تُطبِق على بيت حانون كـ"كماشة"، وصوت المآذن يعلو في محافظات شمال القطاع: "غدًا الجمعة (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006)، احتشاد نسائي في العاشرة صباحًا قرب دوار بيت لاهيا"، في الأثناء الدبابات تقترب أكثر من مسجد "النصر" وتحاصر عشرات الشبان، فتغير توقيت الاحتشاد إلى السادسة صباحًا.

بعد ليلة "حامية الوطيس" زادت معها حرارة القلوب حماسًا، زحفت ألفا امرأة إلى مكان الاعتصام الهادف "لاستصراخ العالم لنجدة المحاصرين" (هكذا خطط القائمون).. لكن كانت الحالة الشعورية للمشاركة أكبر من تلك الصرخة، لا يهبن "الموت"، يرددن شعارات "بدنا نروح على بيت حانون" ويكررن مطلبهن، لتُوضَع مُنظِّمات الاعتصام ومنهن وزيرة شؤون المرأة السابقة النائبة بالمجلس التشريعي د. جميلة الشنطي أمام قرار "مصيري" يتعلق بأرواح مئات النساء، إذ كان أي رجل يقترب من المنطقة المحاصرة يُطلِق عليه الاحتلال النار فورًا.

باتت ومن معها أمام قرار فرضته الظروف عليهن، تعيد تقليب الذكريات في حوارها مع صحيفة "فلسطين" روت في خلاله أحداثًا وتفاصيلَ لم تُوثِّقها عدسات الكاميرات في ذكرى تلك المواجهة التي سطرت في خلالها النساء ملحمةً بطولية "أسطورية".

بين عامي 2005 و2006 تعرض قطاع غزة للاجتياحات المتكررة من الاحتلال الإسرائيلي، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني ركز توغله على بلدة "بيت حانون"، وشن اجتياحًا سماه "غيوم الخريف"، في ذلك الوقت احتشد المقاومون من كل محافظات القطاع للدفاع عن البلدة، والتصدي للدبابات وطائرات الاحتلال، قبل المعركة كان الاحتلال قد قتل 18 مواطنًا من عائلة "العثامنة" بنفس المنطقة.

تجمع المقاومون وبدؤوا في مقاومة الآليات والدبابات المتوغلة لإجبارها على التراجع، واستمروا في ذلك حتى نفاد ذخيرة الكثير منهم، وحاصر الاحتلال العشرات منهم، فاحتموا داخل مسجد "النصر"، وفق الشنطي.

في الخارج انتفضت نساء بيت حانون يدافعن عنهم على مدار أيام الاجتياح الذي ارتقى فيه 60 شهيدًا، فاستصرخت نساء محافظات الشمال.

قرار مصيري

يطير صوت النائبة الشنطي وذاكرتها إلى لحظة القرار المصيري: "كان هدف الاحتشاد بداية إيصال رسالة إعلامية لاستصراخ العالم بأن أهلنا في بيت حانون في خطر، لكن مع هتاف النساء "بدنا نروح على بيت حانون"، وأمام هذا الإصرار والزحف الذي لا يستطع أحد إيقافه، وُضِعنا أمام قرار صعب ومسؤول يتعلق بأروح ألفي امرأة".

"في النهاية اتخذنا قرارًا بالانطلاق بمسيرة نسائية إلى بيت حانون، فصدرنا لمقدمة المسيرة العناصر النسائية القوية والشجاعة".. وهكذا اختلف الهدف.

نظم القائمات على المسيرة ترتيبات وأوامر آنية، تفاعلت معها النساء كأنهن جيش، يحملن سلاح الإرادة في الدفاع عن المحاصرين.

"شعرنا أننا نسير بمعية الرحمن، وأصبحنا بمسافة صفر، وأمامنا نحو 20 دبابة إسرائيلية، لحظتها لم نحمل أي أعلام، خرجنا كأمهات للشباب، وبدأت النساء تتعارك مع الاحتلال وتلقي الطوب والحجارة، على الدبابة، ربما اعتقد الاحتلال أننا سنبقى ساعة أو ساعتين ونغادر"، تواصل حديثها.

ولم يدْرِ أن في جعبة مخططات النساء، والكلام للشنطي، أكبر مما تفكر به قيادة الاحتلال التي تجتاح المنطقة، فكانت النساء التي تقلي الحجارة "تقوم بدور منظم لإلهاء تلك الدبابات، في حين تسللت نحو 100 امرأة، مثل الفرسان إلى منطقة المسجد وهناك دارت مواجهات بالحجارة مع نحو ثلاث دبابات تحاصر المسجد" تستعرض النائبة المخطط.

قرب المسجد دارت مواجهات شرسة بين الفارسات وقوات الاحتلال التي رشقتها بقنابل الغاز المنبعثة من فتحات الدبابات المتمركزة ومدافعها، وكأن سحابة ضباب مرت على المنطقة وحجبت الرؤية، تستذكر بصوت فيه حسرة على مشهد لم يوثَّق: "لو حدث تصوير للمشهد بتلك اللحظة لشاهد العالم "العجب العجاب"، ورأى كيف صعدت الفتيات ظهر الدبابة، لضرب الجنود بالأحذية".

حدثت معركة كرٍّ وفر مع الجنود، تصعد الفتيات ظهر الدبابة ثم ينسحبن، فيخرج الجنود من أبوابها وفتحاتها، ثم تعود النساء والفتيات بشجاعة لإلقاء الحجارة عليهم، فتفعلت معها أنظمة الدخان الكثيف الصادرة من الدبابات، وكأنه جند من جنود الله أعمى بصيرتهم".

من بين سحب الضباب التي ارتخت في أجواء المنطقة، تسللت الفارسات إلى داخل المسجد، وكانت اللحظة حاسمة: "استمر الضباب ربع ساعة، فخضنا معركة خاطفة، أخرجت النساء الشباب المحاصرين، وبعد انقشاع الغبار وابتعاد الشباب من المشهد، اكتشف جنود الاحتلال الأمر وجن جنونهم وبدؤوا في إطلاق النار الكثيف علينا".

احتمت النساء المتأثرات بقنابل الغاز أسفل الأشجار، الطائرات المروحية (الهيلوكوبتر) فتحت نيران رشاشاتها، رشاشات الدبابات الآلية أصبحت مثل شخص مجنون، تستذكر الشنطي: "انبطحنا أرضًا، ولا نعلم من استشهد، توقعت في قرارة نفسي أن يصل عدد الشهداء إلى 50 شهيدة، فارتقت شهيدتان، وأصيبت 70 امرأة ثلاثٌ منهن بترت أرجلهن، انتهت المسيرة أو المعركة الساعة الواحدة ظهرًا".

"ذهبت للمشفى نلملم جراحنا، فتلقيت اتصالًا هاتفيًّا من رئيس المكتب السياسي الحالي لحركة المقاومة الإسلامية حماس إسماعيل هنية يثني على هذه البطولة ومهنئًا بسلامتنا، فقد كانوا يتابعون الحدث من كثب"، تتابع حديثها.

تقول الشنطي: "لا يوجد معركة في الأيدي والإرادة والحجارة يُهزم فيها عدو مدجج بالسلاح، جميع النساء طلبن الشهادة، لم أرَ واحدة خائفة، تقدمن الصفوف".

"بطلة المسيرة"

14 عامًا مضت، تحملت فيها الجريحة مكرم حمدين (45 عامًا) آلام إصابة رافقتها، طوال مسيرة علاج طويلة، لكن بقي مشهد تصدرها الصفوف الأولى للنساء، ترويه لأحفاده وللأجيال المتعاقبة.

في ذاك اليوم، ومع أفول غيوم الغاز، ومغادرة الشباب المحاصرين، بدأت الرصاصات مثل وحش مجنون ترتطم بالجدران والأرصفة، كانت من بين النساء اللواتي سمعن صوت أزيز الرصاص، ليطلق الاحتلال عليها قذيفة، نعت فيها نفسها قبل أن ينعاها الجميع.

مشهد مروِّع يستوطن ذاكرتها، فقد غيَّر مجرى حياتها: "أصبت بالقرب من مسجد النصر، شعرت وكأن شيئًا فتت قدميَّ وبدأت الدماء تنزف مني، فحملتني النساء إلى منزل وبقيت فيه محاصرة ثماني ساعات، كانت دمائي تنزف مثل شلال لا يتوقف، وهن يحاولن وقف الزيف بربط قدمي المهشمة، وحُوِّلت للمشفى، وتارةً أقيس نبضي وتارةً أتحسس أني ما زلت على قيد الحياة".

ما زالت تروي ما حدث: "مكثت في المشفى ستة أيام غائبة عن الوعي، ولا أعرف ما جرى لي، فاستيقظت وبدأت أشعر بجسدي، لكني لم أشعر بقدمي، فصرخت بوجه أختي: "رجلي ضايلين .. رجلي ضايلين؟"، حصلت على تحويلة علاجية على مصر، وهناك لم يبتروها لكن ظلت بلا حركة، ومن يومها أصبحت مقعدة".

"استقبلت الأمر بالصبر، وحمدت الله على ما أصابني ولم أندم على شيء، فما فعلته كان بطولةً أفتخر بها أمام أولادي وأبنائي".. وهكذا مضت حياة مكرم، تتحدى مصاعب الحياة، على كرسيها المتحرك، ورغم "مرارة الظروف وقسوتها عليها" فقد كانت شابة لا تتجاوز الـ30 ربيعًا من عمرها آنذاك، إلا أنها بدأت تتكيف مع واقعها الجديد، وتتأقلم عليه، فكانت بطلة تلك المسيرة وأكثر النساء جرحًا غائرًا لم يضمد حتى اليوم".