فلسطين أون لاين

شاي الصباح قرب الأقصى يمنح "عائشة" النفس الطويل

...
غزة-مريم الشوبكي:

يصعب عليها تخيل أنها لتعيش في بلدها تحتاج إلى "أن تُجدِّد إقامتها فيها"، تسافر يومين ثم تعود ليُسجّل اسمها في سجلات المغادرين ثم العائدين لتحوز "إقامة" تتجدد كل شهر، ثم كل سنة، وتعيش هذا التشتت لتسع سنوات حتى تحصل على ما توصف بـ"بطاقة هوية".

ضريبة تشبث عائشة مصلوحي بالعيش في غرفتها التي لا تتعدى السبعة أمتار المطلة على الجامع القبلي وحائط البراق، تكمن في أحد جوانبها في أنها تُرغم، وهي متجرعة مرارة الإبعاد، على السفر إلى الأردن حتى تستطيع تجديد إقامتها كـ"زائرة" –كما يزعم الاحتلال- إلى مدينة القدس المحتلة التي ولدت فيها.

عائشة (74 عاما) التي تعيش في غرفة شاهدة على جريمة هدم حي المغاربة بعد حرب سنة 1967، وعلى انتهاك الاحتلال حائط البراق، وجعله ساحة لإقامة ما تسمى "الصلوات التملودية".

تعبت عائشة من السفر كل شهر إلى الأردن لتحوز ما تسميها سلطات الاحتلال "إقامة"، فاتجهت نحو توكيل محامٍ استطاع أن ينتزع قرارا بـ"تجديد إقامتها" كل عام، مؤكدا لها أن سلطات الاحتلال لا تريد أحدا في المكان، وتراهن على النفس الطويل، وبفعلتها هذه تريد منها اليأس والاستسلام لكي لا تعود مرة أخرى.

تروي عائشة لصحيفة "فلسطين" تفاصيل حكاية عقود من الكفاح في سبيل بقائها لصيقة بالمسجد الأقصى: "يراهنون على نفسي الطويل، لو استمروا بفعلتهم 100 سنة سأبقى أحاول ولن أستسلم، وبالفعل بعد محاربة استطعت الحصول على (ما تسمى بطاقة) الهوية".

في 1975 كانت عودة عائشة إلى حضن الوطن، بعد وفاة زوجها في المغرب وتركه حملا ثقيلا أربعة من الأبناء، استطاعت والدتها استصدار "لم شمل" لهم. كان بيت والدتها ضيقا لا يتسع لعائلتها، فبحثت عن مكان تسكنه في البلدة القديمة.

تتابع: "كان رجل مسن يسمى عبد القادر يعيش في هذه الغرفة قبلي لم يكن له أولاد، فقد جاء من المغرب إلى القدس ليعيش باقي حياته مجاورا للمسجد الأقصى، استأذنته بأن أعيش في غرفته مع أطفالي بعد وفاته، عامين مرا وتوفي عبد القادر، وبالفعل أعيش في المكان إلى وقتنا هذا".

كل صباح تفتح عائشة شباك غرفتها ترتشف كوب الشاي وهي تتغنى بجمال وقدسية المكان الذي تطل عليه وهو المسجد الأقصى، تحمد الله أنها عادت من غربتها إلى مسقط رأسها، وتنسى معها همومها، "فيها أشعر أن قلبي ما يزال ينبض بالحياة، لا أستطيع العيش خارج القدس فأنا كمصير السمك إذا أخرج من الماء" وفق وصفها.

"انتزعتها من قلبي"

تعيش اليوم وحدها في الغرفة بعد أن زوَّجت أبناءها وسكنوا خارج أسوار المسجد الأقصى، يأتون لزيارتها مع أحفادها، فلا يتوانى حفيدها عن سؤالها دوما "تاتا ما بتخافي تنامي لحالك؟"، سؤاله هذا ناجم عن اقتحامات واعتداءات مستمرة يتعرض لها الفلسطينيون في البلدة القديمة.

لا تتردد بأن تجيبه: "غريزة الخوف انتزعتها من قلبي، في سبيل بقائي في هذه الغرفة".

تستذكر أياما كانت فيها طفلة تعيش في بيت فسيح وأمامه حديقة غنية بأشجار التين والزيتون يقع في حي المغاربة قبل هدمه، كانت بيوت جميع ساكنيه على هذه الشاكلة، حتى هدمه الاحتلال واضطروا إلى النزوح إلى بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس.

تدفع عائشة ضريبة إقامتها في غرفتها كما حال أهل القدس جميعا، يفرض الاحتلال عليهم ضريبة "أرنونا"، تضاف إلى غلاء المعيشة الفاحش في المدينة والذي يرهق جيوب المقدسيين، ومع ذلك يرفضون التنازل عن سنتيمتر واحد من بيوتهم "حتى لو بدهم ياكلوا خبزة وبصلة" كما تؤكد.

توصي عائشة أبناءها بغرفتها قائلة: "أوصيتهم بعدم ترك الغرفة وبالمبيت فيها، أو بالتناوب فيما بينهم على الوجود فيها حتى لا يستولي عليها الاحتلال بمزاعم أنها أملاك غائبين".

عيون الاحتلال مفتوحة للسيطرة على غرفة عائشة، لا ينفك عن مساومتها بآلاف الدولارات مقابل التنازل عن السبعة أمتار، لأنه يريد أن يُحل محلها المستوطنين.

تتابع: "حب المقدسيين لمدينتهم حقيقي نابع من القلب، لولا ذلك لما بقي مقدسي يجابه الاحتلال كل يوم لكي يبقى متمسكا ببيته".

في الذكرى 103 لوعد بلفور المشؤوم توصي المسلمين عامة والفلسطينيين بالتحديد بعدم ترك وطنهم، لأن الغربة قد تعطيهم سعادة مؤقتة، ولكن العيش في الوطن أثمن، فهو يعطي للإنسان قيمة مهما كانت حياته صعبة داخله.