ما أن بدأت التهيئة لاستقلال السودان عن الحكم الثنائي، المصري البريطاني الذي بدأ عقب اخماد بريطانيا للثورة المهدية عام 1885، ومن قبلها (ثورة عرابي) في مصر 1882، ومن ثم ضم السودان لمصر عام 1921، وما أسس له الجنرال الإنجليزي (كتشنر) في ضرب إمبراطورية محمد علي، التي امتدت من "ميملي" في أقصى جنوب السودان، على الحدود مع مملكة الباغندا "أوغندا" جنوبًا إلى ما بين المتوسط شماله وشرقه، وحتى قونية في الأناضول قرب إسطنبول بين 1831 و1840 بعيد قضائه على الحركة الوهابية، والدولة السعودية الأولى التي كانت ترعاها.
وإلى أن نصل إلى أعتاب استقلال السودان عن مصر وادماجها جنوبا وشمالا كيانا واحدا في اوائل خمسينيات القرن الماضي، وقبول مصر عقب ثورة 1952 منح السودان حق تقرير المصير، كوحدة كاملة بين الشمال والجنوب، ما أدى بأبناء الجنوب السوداني، في مديريات خط الاستواء إلى قيام التمرد الانفصالي للجنوبيين عام 1955؛ وذلك بتسليح وتمويل من دولة الكيان الصهيوني، بغية خلق سودان ضعيف يمثل العمق العربي، في القارة السمراء، وانطلق التمرد بكل شراسة وعنفوان؛ حتى قبل حصول السودان على الاستقلال. وقد أطلق المتمردون الانفصاليون على حركتهم هذه (أنيانيا) أي الحية السامة.
وهكذا؛ وجدت حكومة اسماعيل الازهري التي تولت قيادة السودان المستقل، في مطلع عام 1956 -وجدت نفسها في أتون حرب أُعدت سلفا في مؤامرة خبيثة مولتها وأدارتها الصهيونية المدعومة من قوى الشر الامبريالية الأوروأمريكية، ومن ثم توالت الانقلابات والتقلبات السياسة؛ إلا أن التمسك بحبل العروبة ضل تارة يشتد، وتارة يتراخى؛ وفقا للتقلبات السياسية في الوطن العربي بصفة عامة في استعار أُوار الحرب في الجنوب مع حركة "أنيانيا الثانية" بقيادة "جوزيف لاغو" حتى عام 1972، بقيادة (جون غرنغ) لجبهة تحرير جنوب السودان، مرورا بتقلبات واشتباكات بين القيادة السودانية، في عهد جعفر النميري، والقيادة الليبية في عهد العقيد الراحل (معمر القذافي)؛ الذي أمد غرنغ بالسلاح والتأييد السياسي، ليثأر من قيادة النميري الذي تواطأ مع حلف شيطاني صهيوني عربي أمريكي لضرب القوات الليبية في تشاد عام 1987 والتي كانت بقيادة (خليفة حفتر)، في عهد الرئيس التشادي (جوكونو عويدي) الحليف للقيادة الليبية المعادية طبعا لنظام النميري!
المهم أن النميري قد ذهب، وجاء بعده من جاء وخاصة فترة قيادة الصادق المهدي الذي أعاد توجيه البوصلة السياسية نحو عروبتها حتى هبت ريح انقلابية أخرى عام 1989 جاءت بالفريق عمر البشير، لتدخل السودان في خضم خلافات وتوترات سياسية داخلية اتسع خلالها ميدان الحركات الانفصالية من الجنوب إلى الغرب في دارفور وكردفان أفضت إلى انفصال الجنوب بقيادة (غرنغ) عام 2011 لتنتقص قيمة السودان جغرافيا وسياسيا، في حين الغيوم القاتمة ما زالت تلف أجواء الغرب في دارفور وكردفان ورموز سودانية أخرى، اقتضت المؤامرة أنهاء دور أو تحجيم السودان.
سودان اللاءات الثلاث
لقد رعت السودان بحق، "قمة اللاءات الثلاث" عام 1967، عقب هزيمة أو نكسة حزيران/ يونيو آنذاك، وظلت تتبناها بكل الحماس والتجليات العروبية، للرد على عار "الوكسة".
إلا أن أجواء العسكرتارية القاتمة، منذ عهد النميري, ومنذ "إبراهيم عبود"، وما بعدهما، قد دوخ السودان، وأغرقها في وصول لا قبل لعسكرها، وجنرالاتها, بمداواتها، أو تخفيف بلواها, ما انعكس إفقارًا وإفلاسًا، ومزيدًا من التسلط والقرف السياسي، وجهود مضنية ومكلفة في إطفاء حرائق وحروب، و"هيصات" أخرى من هنا وهنالك؛ ولا سيما في الجنوب، التي انفصلت كما ذكرنا؛ والذي لم ينطفئ في الغرب بعد.
والحقيقة أن الألم بات يعتصر السودان اعتصارا مؤلما، بما لا يطاق ما أودي بها لرهن أبنائها وبندقية عسكرها للإيجار في حروب ومساخر "أعرابية" خارج السودان, ما زاد الطين بلة، الأمر الذي سوغ لعساكرها؛ أمثال "البرهان، وحمدوك" وأمثالهما من دهاقنة "الهيلمة" والمسخرة، للانخراط في "زفة" العمى العربي، أو الأعرابي، الذي جرى التأسيس له منذ "الكامب" أو الماخور الكبير 1979.
ومن المضحك المبكي أن السودان لقي من أعراب أمريكا "سخاء غير معهود؛ حيث دفعوا فاتورة قدرها 350 مليون دولار، قالوا إنها تعويضات أحداث تفجير سفارات الولايات المتحدة عام 1999 في كينيا وتنزانيا، وضحايا المدمرة الأمريكية "كول"، قبالة عدن!
نعم؛ ليستعجل البرهان صفقة العار مع الصهاينة، برعاية أمريكية-بترو أعرابية، وفي البيت الأبيض.
عسى أن تفرج هموم السودان، ويُقضى على الفقر فيها، كما قضي عليه في من سبقوها!
على كل حال تاه دليل السودان، في غياب مؤسسات سودانية تعبر عن حال أهل السودان، أبناء المهدي الكبير, وعلي دينار، والسنانير، وأحفاد لقمان!
هل أعتبرها كبوة خيل, سرعان ما تنهض؟!
أراهن أن الأيام حبالى، وتلد كل عجيب.
وأخيرا؛ أدعو شاعري ليسلي "براهين" السودان وخصيان البيضان، عساه يطربهم, ويشجيهم على وتر القصيد:
"لأن الخيل قد قلَّتْ.. تحَلتْ حميرُ الحيٍ بالسَرج الأنيقِ
إذا ظَهَرَ الحمارُ بزيِّ خيْلٍ تَكَشَّفَ أمرُهُ عند النهيقِ"
إلى اللقاء.