دأبت السياسة الإسرائيلية على احتقار المقاومة، وتسخيف المقاومين الفلسطينيين، ووصفهم بالمخربين تارة، وبالإرهابيين تارة أخرى، وعمدت على مدار السنوات الطويلة من الصراع العربي الإسرائيلي إلى تعزيز المفهوم القائل بأن (إسرائيل) لا تركع، ولا تؤخذ بالقوة، وأن التوسل والرجاء والاستعطاف هي الطريق الأمثل لنيل بعض الحقوق من الإسرائيليين الذين لا ينهزمون.
فهل راهن الأسرى الفلسطينيون على الحصان الخاسر حين أعلنوا إضرابهم المفتوح عن الطعام؟ وهل أخطؤوا التقدير للحالة الفلسطينية، ولم يدققوا في الواقع، ولم يتمعنوا في الظروف العربية والإقليمية التي تحيط بإضرابهم المفتوح عن الطعام؟
وإلى متى سيصمد الأسرى؟ وهم في اليوم الرابع عشر للإضراب تنتابهم نوبات من الإغماء والارتخاء، وحالات من الدوخة، ويسكن الوجع المبرح في الأحشاء والمفاصل وفي عظم الساقين والكتفين وفي الظهر وفي العنق، وتهتز الصورة أمام العينين، ويرتجف الطنين في الأذنين، ويرتعب الجسد ضجراً، ويرتعش من شدة الوهن، ولا مسكن للألم الذي يأبى الاستقرار في مكان محدد على الجسد المتهالك. لتميل نفس المضرب عن الطعام في اليوم الرابع عشر إلى التقيؤ رغم فراغ الأمعاء، التي تطحنها الأحماض، وتتصارع فيها الغازات، فإذا بالأسير المضرب أقرب إلى خرقة بالية، لا تساوي لديه الدنيا حبة بطاطس مسلوقة، أو صحن شوربة عدس.
حين أعلن الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام كانوا يدركون حقيقة عدوهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يدركون حقيقة الشارع الفلسطيني الذي أثبت في الماضي، وسيثبت في الأيام القادمة أن الأسرى الفلسطينيين قد راهنوا على حصان جموح يرفض التدجين، حصان الكرامة الذي انطلق من بيت لحم وبيت أمر والقدس ورام الله ونابلس، والخليل ليصهل بالحرية الكرامة.
وحين أعلن الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام كانوا يدركون أن الواقع العربي والإقليمي ممزق، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يدركون أن القضية الفلسطينية هي نقطة التقاء كل المتناقضات والخلافات والنزاعات العرقية والطائفية، وأن الشعوب العربية والإسلامية لن تقف موقف المتفرج مما يجري على أرض فلسطين، وفي الزنازين من مقاومة عنيدة.
وحين أعلن الأسرى الفلسطينيون إضرابهم المفتوح عن الطعام كانوا يدركون أن الطابور الخامس سيطعنهم في الظهر، وسيلتف على خطوتهم، وسيحرض على إفشالهم، وسيحرص على عدم تصعيد المواجهة لئلا ينفضح عرضه الانهزامي، ومع ذلك، فإن الأسرى كانوا يدركون أن السياسة حراك، وأن مواقف كثير من النخب التنظيمية ستتحول بمواقفها على ضوء التحول الحادث داخل الشارع الفلسطيني الغاضب، فكلما زادت أيام الإضراب، كلما اشتد الخطر على حياة الأسرى، وكلما تحرك الشارع الفلسطيني، وصار أكثر جموحاً، ليصير الانزياح البائن من معسكر الموالاة للهدوء والمسكنة إلى معسكر الموالاة للمواجهة والتمرد وانتزاع الحقوق.
فهل ستخضع (إسرائيل) لمطالب الأسرى الفلسطينيين؟
نعم، فالزمن يلعب لصالح الأسرى، وكل يوم يمر عليهم بالوجع يمر على عدوهم بالهلع، فإذا أدركت (إسرائيل) أن الأوضاع في الضفة الغربية تسير باتجاه الانتفاضة، وأن إرادة الشباب بدأت تتمرد على الأجهزة الأمنية الفلسطينية الحريصة على ضبط إيقاع المظاهرات ضمن حدود خيمة الاعتصام، وقتها ستتحرك (إسرائيل) بجدية لوقف إضراب الأسرى عن طريق الحيلة والخديعة، لا سيما بعد أن فشلت في ثني الأسرى عن أهدافهم من خلال التخويف والعزل والبطش والإساءة والتشويه والعقاب الجماعي، لذلك ستعمد إدارة السجون إلى تقديم الوعود بالاستجابة لمطالب الأسرى شرط أن ينهوا إضرابهم، ودون التوقيع على اتفاقية ملزمة بحضور الصليب الأحمر.
فهل ينخدع الأسرى بالوعود الزائفة؟
التجربة خير معلم، فمن يتنازل للإسرائيليين مرة يتنازل لهم ألف مرة، فكيف بالأسرى الذين لا يمتلكون إلا كرامتهم وإرادتهم، وقد زجوا بهما في المعركة، فصاروا ثقل الشارع في أسبوعين، وصاروا صرخات الغضب في الضفتين، حيث يعتبر اليوم الرابع عشر للإضراب من الأيام الفارقة للأسرى كبار السن وللمرضى ولأولئك الذين تسكنهم الأمراض المزمنة، لتمسي احتمالية وفاة أحد الأسرى المضربين قائمة، وهذا لا يعني أن الأسرى ضعفاء، وأنهم فاقدو إرادة التحدي، ويفزعهم فحيح الموت، ففي سنة 1991، أضرب الأسرى عن الطعام في سجن نفحة الصحراوي لمدة عشرين يوماً، وحصل في اليوم الرابع عشر للإضراب أن استفز ضابط الاستخبارات الإسرائيلي الأسرى المضربين، وقال لهم: لقد ضعفتم، وانتهيتم، وستنهون الإضراب دون أن تخضع لكم دولة (إسرائيل)! في ذلك الوقت تحدى الأسير عزام المغاري، من سكان مخيم البريج في قطاع غزة، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي في سجن نفحة، وقال له: إننا أقوى منكم رغم أربعة عشر يوماً من الإضراب عن الطعام، وتعال لنرى أينا يكسر يد الآخر؟.
وفعلاً، جلس الأسير المضرب عن الطعام لمدة أربعة عشر يوماً مقابل ضابط الاستخبارات الإسرائيلي على الطاولة، وأمسكت اليد الفلسطينية المنهكة من الإضراب عن الطعام باليد الإسرائيلية المغرورة بقدرتها على القهر، وبعد تحدٍ شديد، ولأن الحق قوة، وقعت يد الضابط الإسرائيلي منكسرة، وظلت يد الأسير الفلسطيني المضرب عن الطعام هي العليا.