فلسطين أون لاين

بـ«شبكة طرح».. صيادو الشاطئ يباركون «تزاوج البوري»

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

تنغرس قدماه الثقيلتان في مياه البحر وهما تتقدمان ببطء وكأنهما تجران حجارة؛ يتلقفه الهواء من كل جانب، حوله تتسابق الأمواج المرتفعة في الوصول نحو الشاطئ ثم التلاشي للخلف، في الأعلى أصوات طيور النورس تعزف لحنًا مع هدير الموج ونفحات صباح تشريني بارد.

"الريس" محمود الهسي (67 عامًا) صياد مسن يكسو اللون الأبيض لحيته، ترسم تعرجات وجهه حكاية عمرها خمسة عقود من العمل في مهنة الصيد، يطارد أسماك "البوري" بحركة بطيئة، ينجح مرة وتلفت منه عدة مرات، فلم يعد ذاك الشاب الذي يستطيع وضع قدمه الأخرى بين سربها ورمي الشباك عليها.

رغم تقدمه في العمر، لا يستطيع ترك بحر أمضى قرابة 55 عامًا فيه ونشأت بينهما علاقة عشق لا حدود لها، مرت كل مراحله العمرية في البحر، عمل على كل أنواع الشباك والقوارب، فكانت المهنة الأنسب العمل على شباك "الطرح" التي ترمى يدويًّا.

يتخفى تحت ظلال قبعة الصيد، هاربًا من حرارة الأجواء التي بدأت ترتفع حينما طرقت عقارب الثامنة صباحًا، يضع شبكة الصيد اليدوية بقطر نحو ستة أمتار على يده اليمنى، ويمسك خيطها بيده الأخرى، نزل الهسي المياه إلى أن غطت أكثر من نصف جسده.

مع كل موجة قادمة يراقب حركة أسماك "البوري" التي تخرج إلى الشاطئ للتزاوج من تشرين الأول (أكتوبر) حتى كانون الآخر (ديسمبر)، فيبارك الصيادون على شاطئ بحر قطاع غزة هذا الصيد، ويستقبلون زفاف البوري بشباك الصيد اليدوية التي يسمونها "الطرح"، حوله يقف صيادون بخط أفقي مستوٍ على امتداد طويل بالحركة نفسها، كل واحد منهم ينتظر اللحظة المناسبة لرمي شباك الصيد.

"مهنة .. تسلية ورزق"

خرج الريس هذه المرة بلا صيد، وعلامات الإرهاق مختلطة مع المياه التي تبلله، يعيد تقليب شريط الذكريات، يراجع صفحاته المنسية، تلتف خيوط شباك الصيد على يده فتمر بين شقوقها: "كنت فتى صغيرًا لا أتجاوز 13 عامًا، أريد تعلم الميكانيكا، لكن تعطلت الدراسة، ولجأت إلى حرفة الآباء والأجداد، وصرنا بحرية، وتعاملت مع الصنارة، واللنش، والحسكة، وصدنا كل أنواع الأسماك".

وقبل أن يكمل حديثه نخرته وخزة ألم واضعًا يده على مفصله، وأخرج تنهيدة عمرها خمسة عقود من العمل بين البحر والرمال، تغير معها مجرى حديثه وابتسم صوته بعد أن جلس على الرمال: "لم أعد أقوى على العمل إلا بالصيد بشبكة الطرح، فأصبحت مسنًّا، أعمل للتسلية والرزق".

لدى محمود حكاية تسطر حروفها تجاعيد وجهه، التي ترسم "لسعة" الشمس عليها قصص الكفاح في رحلة البحث عن لقمة العيش، صحيح أن العمر والزمان اختلفا، لكن بقي المكان واحدًا احتضنه فتى وشابًّا وكهلًا.

عن آخر مرة تناول فيها السمك، كانت إجابته "ممزوجة بمرارة الواقع" الذي ترك بصمته على ملامح الصياد، إذ إنه يشتري "بلميدا" الذي يبلغ ثمن الكيلوجرام الواحد منه ثمانية شواقل، ولا يتمكن من تناول الأصناف التي يصطادها ويقدر ثمن الكيلوجرام منها بـ30 شيقلًا، يعلل: "لأنه هدا الصيد للرزق مش الأكل، إلا إذا صدت مثلًا 20 كيلو فلا أبخل عن نفسي".

يمسك شباك "الطرح" بيده، لا يخلو الحديث من مواقف صيد خارجة عن المألوف حدثت معه: "أذكر في رمية واحدة اصطدت 50 كيلوجرام دنيس وبعتها بمبلغ (1680 شيقلًا) قبل سبعة أعوام، ومرة اصطدت سمك "بوري" بمبلغ 800 شيقل، في هذا العام اصطدت سمكة تزن 2.5 كجم من نوع بوري، ونحن الصيادين نكون سعداء جدًّا بذلك".

لماذا اخترت الصيد بشبكة "الطرح"؟، يرد الستيني نزار الهسي وهو يعود بخطوات متثاقلة من داخل المياه: "لا يوجد غيرها، فلا نستطيع شراء الحسكات والقوارب (...) هي دخلي الوحيد منذ 30 عامًا، نأتي هنا فجرًا ونستمر حتى ساعات الظهيرة للصيد".

ما إن لاحظ رمضان الهسي بعد نحو نصف ساعة من نزوله البحر حركة أسماك حتى دار بنفسه عكس اتجاه رمي الشباك، فنزلت على عينها الدائرية، لكن لم تكن محاولته ناجحة، ليخرج للاستراحة على رمال الشاطئ.

نفض الهسي الشبكة عدة مرات وهو يضمها بين يديها، وأطلق ضحكة أخرى رسمها على وجهه، يقول: "رميت شبكة الصيد إلى الآن 25 مرة، نجحت ثلاث مرات في صيد سمك "البوري"، وهذا النوع من السمك مطلوب بالسوق، لكن دخله خفيف، لو أردنا الركون عليه فلن نعيش".

بين التسلية وتعلم مهارات الصيد، يرمي الفتى محمد الهسي (15 عامًا) شبكة الصيد بمسافة قريبة من الشاطئ، وكأنه يلهو مع نفسه، ثم يعيد الكرة ويرميها، أمامه يقف الصيادون بصمت وهدوء وصبر، منذ وقت يرقبون أسماك البوري، وفي المحاولة الثالثة رمى محمد الشبكة على قاعدة "رمية العميان، يا بتصيب يا بتخيب"، وشد الشباك ليخرج عن صمته: "هي سمكة، هي سمكة"، كانت عالقة في شباكه.

"الجرافة" على الشاطئ

إلى الأمام، ترى نحو 10 شباب يشدون حبلين كل من اتجاه، لكن هذه ليست رياضة شد الحبل، فالثقل موجود داخل البحر، وهو عبارة عن شبكة صيد كبيرة بمساحة 100 متر، تسمى "الجرافة"، مخصصة لصيد الأسماك الكبيرة، مع كل شدة حبل كانوا يكبرون: "الله أكبر"، تتعالى أصواتهم: "حي الله"، وهكذا استمر المشهد حتى برزت الشباك ووصلت إلى الرمال، فترى عدة أسماك "بوري" تحاول القفز، ولكنها كانت عالقة تحت شباك "الجرافة"، تجمع حوله أطفال ونساء ممن كانوا يستجمون على الشاطئ.

يحاول الصياد "أبو زاهر" رسم ابتسامة بارزة: "يلا يا شباب معلش، المهم نتعلم من أخطائنا"، لكن ملامحه تخفي خلفها عدم رضاه، هو يعترف بضحكة أخرى: "لا مش زعلان بالعكس أكبر نعمة، لكن بحب نعدل أخطائنا".

التقط أنفاسه، وهو يساعد الشباب في طي الشباك، ثم قال: "هذه الشباك تسمى "جرافة" لأنها تجرف كل ما يقابلها من الأسماك الكبيرة، ولا تستطيع الإمساك بالأسماك الصغيرة، فعيون شباكها واسعة، فنمنع من صيد الأسماك الصغيرة حفاظًا على الثروة السمكية".

برأي أبو زاهر، الصيد بالجرافة يحتاج إلى صبر أكثر من الخبرة: "البحر قد ما تكون شاطر لازم ما تنقطعش عنه، لأنه ممكن تصيد مرة وعشرة لا (..) الواحد لازم يراقب البحر".