كانت القضية الفلسطينية على مدى عقود قضية العرب الأولى، واليوم تؤكد الإدارة الأميركية للأمتين العربية والإسلامية انحيازها المطلق لسلطات الاحتلال الاسرائيلي، بل مشاركتها في دعم هيمنتها على المنطقة بأسرها، وذلك في ظل حكومة إسرائيلية لا تتنكر فقط للحقوق الفلسطينية المشروعة، بل إنها تمعن في التنكيل بالشعب الفلسطيني وتسعى جاهدة لتصفية القضية الفلسطينية، وابتلاع أكبر قدر من الأراضي المحتلة وتهويد القدس وإبقاء الفلسطينيين في معازل متفرقة تتحكم في كل مجالات حياتها، فهل هذا هو السلام والاستقرار الذي تتطلع إليه المنطقة؟ وهل غاب كل هذا عن أعين بعض الدول العربية التي هرولت أو تهرول نحو التطبيع مع دولة الاحتلال الاسرائيلي؟ فمنذ توقيع أول معاهدة سلام بين مصر والاحتلال الاسرائيلي عام 1979، حافظت واشنطن على التفوق العسكري للاحتلال، خاصة فيما يتعلق بسلاح الجو، حتى بات سلاح الجو الإسرائيلي هو الأقوى في منطقة الشرق الأوسط عموماً، لماذا؟ لأن قادة الاحتلال لايزالون يسمون الدول العربية بالأعداء حتى ممن عقد معهم صلحا او تطبيعا كما صرح نتنياهو لذا يرفضون تزويد العرب بأسلحة متطورة، كما يرفض الآن نتنياهو صلب الامارات شراء مقاتلات اف ٣٥ المتطورة من الولايات المتحدة، وحتى في حال حصول الامارات او اي بلد عربي لهذا السلاح، فلا يكون على حساب التفوق العسكري في المنطقة، وتبقى احتمالية او فرضية موافقة الاحتلال على صفقة الامارات لهذا النوع من السلاح مرهونا بشرط تفريغها من غالبية مميزاتها القتالية المتوفرة في طائرة اف ٣٥ بحيث تكون مكشوفة لردارات الدفاعات الجوية الاسرائيلية، هذا معناه حفاظ واشنطن على تفوق الاحتلال الاسرائيلي عسكريا في المنطقة، والدليل على ذلك وقّع الطرفان قبل أيام قليلة اتفاقًا أمنيًّا جديدًا، وهو بمثابة اعلان مشترك ينص على تأكيد الولايات المتحدة التزامها بضمان التفوق العسكري للاحتلال الاسرائيلي في الشرق الاوسط على مدى العقود المقبلة، وجاء ذلك إثر محادثات بين الجانبين، قالت وسائل اعلام اسرائيلية: إنها تناولت طلب (إسرائيل) قائمة طويلة من الأسلحة المتطورة من الولايات المتحدة، يتم دفع ثمنها من المساعدات الاميركية الطائلة سنوياً، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات لدى المواطن العربي والكثير من الأسئلة على قادة الدول العربية.
أول هذه التساؤلات يتعلق لمن ستوجه إليه الاسلحة الفتاكة الاميركية؟ علماً أن تاريخ المنطقة على الاقل في العقود القليلة الماضية أثبت ان (اسرائيل) تستخدم هذه الأسلحة ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وخلال الفترة الاخيرة استخدمتها ضد ما وصفته بالتموضع الايراني في سوريا والعراق.
السؤال الأهم الذي يليه بهذا الشأن هو: لماذا تصر الإدارة الأمريكيّة على إخضاع الشعوب العربية للتفوّق العسكري الإسرائيلي؟ وما هو موقف القيادات العربية التي تشتري المزيد من الأسلحة الأميركية التي لم توجه يوماً في سياق الصراع العربي الاسرائيلي، وهي تعلم جيداً أن التفوق العسكري (لإسرائيل) تلتزم به واشنطن منذ عقود؟ هذا الأمر يثير التمسك بالتفوق العسكري للاحتلال الاسرائيلي تساؤلات كثيرة بشأن حرص الولايات المتحدة على أن تظل (تل أبيب) متفوقة حتى على من وقّعوا معها اتفاقيات سلام أغلقوا من خلالها أي باب للحروب، وابتعدوا بعدها عن قضية فلسطين بشكل كامل، ولو من الناحية العسكرية.
هذه التساؤلات أجمعها في إجابة واحدة وهي أن (اسرائيل) وجدت لتكون رأس الحربة التي تعتمد عليها واشنطن في إيجاع الدول العربية أو الشرق أوسطية التي تريد إيجاعها عندما تخرج عن طوعها، وعليه فإنها تتمسك بتفوق كيان الاحتلال عسكرياً؛ حتى يظل قادرًا على الوصول لكل من تريد الوصول إليه بالمنطقة، وقبل كل هذا حماية مصالحها ومصالح الدول الغربية ايضا في المنطقة، التي لها الفضل في إنشاء ودعم كيان الاحتلال منذ اللحظة الاولي ولم يتخلوا عنه حتى هذه اللحظة.
فليست الولايات المتحدة وحدها التي تمسكت بالتفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة؛ فقد سبقتها إلى ذلك بريطانيا، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تسلح أو توافق على تسليح العصابات اليهودية بأفضل الأسلحة تمهيداً لإعلان هذا الكيان الغاصب، ما منح الأخيرة أفضلية في حرب 1948.
وحتى حرب يونيو 1967، كانت فرنسا أيضاً حريصة على تفوق (إسرائيل) عسكرياً على كل دول المنطقة، وقد منحتها أفضل الطائرات المقاتلة آنذاك، فضلا على ذلك أنها لها اليد الأولى في بناء مفاعل ديمونا، حتى بدأت الولايات تتصدر مسألة الحفاظ على هذا التفوق، بعد تراجع فرنسا في عهد شارل ديغول.
وبدون دعم هذه الدول التي لا يستغني عنها الاحتلال الإسرائيلي قط، فإنه يستغل سيطرة اليهود على منظمات المجتمع المدني العالمية، وامتلاكهم لكبريات شركات ومصانع السلاح المتطور في أنحاء العالم، ومن ضمن ذلك روسيا، ما يجعل (تل أبيب) تتمتع بالأفضلية في الحصول على السلاح، وإلى جانب ذلك فإن أي رئيس أمريكي يعلم أن فقدانه دعم اليهود يعني خسارة الانتخابات، وحتى خلال وجوده في الحكم فإنه يعلم أن اللوبي الصهيوني قادر على إنهاء مستقبله السياسي بأي طريقة، ومن ثم فالولايات المتحدة تصر على تفوق الاحتلال الإسرائيلي عسكريا على من طبّعوا علاقاتهم معها، لماذا، لأن قادة الاحتلال يعتبرون الدول المطبعة معه لايزالون اعداء كما وصفهم نتنياهو حتى الدول المستقرة سياسياً، ولو ظاهرياً، تحكمها عائلات وليس أنظمة، وهذه العوائل قد تتغير سياستها تجاه (إسرائيل) بتغير من يجلس على كرسي العرش، وعليه فإن الحكام المستقبليين لهذه الدول المهمة قد يكونون "غير مؤتمنين" على التكنولوجيا الأمريكية، من وجهة نظرهم، لذا يرجع تمسك كافة الأذرع اليهودية بالتفوق النوعي وليس الكمي على كافة خصومها الحاليين والمستقبليين يعود بالدرجة الأولى إلى قدرة هذه الدولة على أداء الدور المنوط بها في المنطقة بجدارة؛ بدليل أنها أجبرت العرب على التطبيع علناً أو سرّاً.
إن ما يجب ان يقال هنا ان الاعلان الاميركي الاسرائيلي بشأن ضمان التفوق العسكري الاسرائيلي لعقود قادمة ومواقف ادارة ترامب المتصهينة من القضية الفلسطينية يشكل لطمة قوية لكل من اعتقد ان السلام والاستقرار والأمن يمكن ان يتحقق على هذا النحو من الذل والهوان للأمة العربية والاسلامية العريقة. كما تشكل لطمة قوية لكل القادة العرب الذين اعتقدوا ان الادارة الاميركية بقيادة ترامب يمكن ان تلعب دوراً نزيهاً في حل القضية الفلسطينية أو فيما يتعلق بباقي قضايا الأمة العربية.