منذ قرابة 30 عامًا، نتلقى الخيبةَ بعد الأخرى، وأصبحت الحقيقة واضحة لا مجالَ لمواراتها، فمنذ تعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، والتخلي عن حقنا في المقاومةِ بمختلف السبل، والزج بنا في أتون المتاهة التفاوضية، أخذَ منحنى المساس بحقوقنا وهويتنا الوطنية يتعاظم، فأصبح من الواضح أن تحصيل حقوقنا بهذه الوسائل ما هو إلا دربٌ من دروبِ الوهم وانعدام الجدوى، وما هو إلا سرابٌ يحسبَهُ الظمآن ماءً بعد أن خلا الجو لتفتيت وضعف قوة دول المواجهة سوريا والعراق صاحبتي القوة الحقيقية الرافضة لمشاريع الاستيطان، ولهما مواقف تاريخية مشهودة ضد الكيان الصهيوني، ومواجهات وحروب مباشرة، منذ أن زرع هذا السرطان في قلب الأمة العربية، وهو الداء الوبيل الذي يقف وراء كل ما تعاينه الأمة العربية من مشاكل.
اليوم -يا للأسف!- وجدت دول الخليج نفسها أمام فرصة للتعامل مع الصهاينة، وهي في ذلك ليست استثناء، فسبقتها المبادرة المصرية التي لم تستفد منها مصر رغم ثقلها العربي والمناطقية، والعلاقة الأردنية القائمة مع الكيان الصهيوني التي لا فائدة منها للأردن إذ بقي اقتصادها فقيرًا ولم يوقف الكيان التوسع وبناء المستوطنات ولم يحد من محاولات إنهاء الشرعية الفلسطينية على أرضها.
لم تكن هذه الاتفاقات آنية، وإنما تدبير طويل من العلاقات الاقتصادية وتبادل الخبراء والبرامج والمعارض في الخفية والعلن، وضمن مخطط ينفذ برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، المتحدية لآمال وطموحات الأمة في تمزيق مواقفها تاريخًا وقيمًا ودينًا، يعاونها على ذلك من يسير في فلكها بتقارب وانسجام المواقف ضد ردود أفعال قد تصدر من هنا وهناك.
السودان هي ثالث دولة عربية بعد الإمارات والبحرين تقيم علاقات تطبيع كامل مع (إسرائيل) في أقل من شهرين، وفي كل الحالات كنا نرفض ونستنكر وندين هذه التطورات ونعدها طعنة في قلب وظهر القضية الفلسطينية، وقمنا بتظاهرات وحرق أعلام وسحب سفراء وعقد اجتماعات، ولكن التطبيع متواصل ولا يبدو أنه في طريقه إلى التوقف، فالأمر أصبح مختلفًا تمامًا عما كانت تنادي به القومية العربية، إذ في بداية وأواسط القرن الماضي ومع بداية تصدير النفط والنهضة العربية كانت فلسطينُ رمزًا للعواصم العربية وقلبًا للتعاطف الدولي، أما اليوم فقد أصبحت (إسرائيل) رمزًا للسلام وقلبًا للاستثمارات الاقتصادية مع الدول العربية، فماذا حدث؟!، وما الذي تغير؟!
لقد لعبت السياسة الأمريكية طوال السنوات الماضية دورًا مهمًّا يعكس صورة (إسرائيل) نموذجًا يجب الاحتذاء به أو على الأقل عدم المساس به، فإما أن تقبلوا الأمر الواقع، وإما لا علاقات بيننا وبينكم، فإن اخترتم الأولى كان خيرًا لكم وأسلم؛ (فإسرائيل) اليوم كانت وما زالت عبئًا اقتصاديًّا على الإدارة الأمريكية، فهي ما زالت تندرج تحت مفهوم "الدول الريعية" أي الدول التي تعتمد في اقتصادها على المساعدات الخارجية أو على تشغيل الدول الأخرى إقطاعاتها، واليوم بعد أكثر من سبعة عقود على إعطائهم أرض فلسطين وطنًا لهم، بدأ العالم يبحث كيف يجعل هذه الدولة الريعية دولة منتجة تعتمد على نفسها للتخلص من هذا العبء، ولكونها تقع في منطقة الشرق الأوسط وجب على جميع الدول العربية المطبّلة للتقارب الأمريكي أن تدفع فاتورة (إسرائيل) اقتصاديًّا وفاتورة الخيانة، فما المقابل؟
لقد شطبت بعض الأنظمة العربية من ذهنها لاءات قمة الخرطوم الثلاث بعد هزيمة حرب عام ١٩٦٧م: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض حتى يعود الحق لأصحابه، وقد ذهبت إلى التطبيع دون أي استفتاء شعبي أو جماهيري، وهناك نوعان من أنظمة التطبيع: ثمة من يطبع لخوفه على كرسي الحكم لأنه يعرف أن شرعية بقائه لا تعتمد على شرعية شعبية ديمقراطية حقيقية، ولكنها تعتمد على الدعم الأمريكي لوجوده في السلطة، ومع ذلك لا يُظهر العداء للقضية الفلسطينية، ويحاول تسويغ التطبيع بالتكتيك ولا يسمح لمواطنيه بالتواصل المباشر مع الصهاينة، وثمة من يتجاوز كل الحدود ويصل إلى ذروة الفجور في التعاون مع المغتصبين وخيانة قضايا العرب والمسلمين، مع التآمر العلني على تصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة توطين قواعد عسكرية ومخابراتية للصهاينة في مناطق أخرى بالوطن العربي، والتعاون الشامل مع الصهاينة لمحاربة الهوية الإسلامية، وفتح نوافذ الاختراق الثقافي لإلقاء المودة إلى قتلة الأطفال والنساء ومغتصبي الديار والمقدسات، ويشجع على هذا الاختراق ويرعاه، ويحاول غسل الدماغ للأجيال القادمة وتغييب قضية الأقصى، وتصوير الصهيوني أنه نموذج للإنسان المتفوق، وتكريس عقدة النقص تجاه الصهاينة.
فهذا المستوى الأخير من التطبيع المذل يجب أن يسجل في موسوعة خاصة للخيانات، ويدرس للأجيال القادمة لمعرفة كيف تكون الهزيمة من الداخل، وكيف كان خطباء السوء يسوغون هذا الانبطاح وهذه الخيانات وتسويقها أنها مجرد صلح مع الأعداء أو هدنة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.