يومان مضيا على عودته للمنزل بعد غيابه 14 يومًا في أثناء عمله بمستشفى غزة الأوروبي، يلعب مع أطفاله يصعدون على ظهره وكأنهم يركبون على ظهر خيل، ثم على قدميه اللتين تحولتا إلى أرجوحة، قبل أن يدوي رنين هاتفه بأرجاء الغرفة.
المتصل يتحقق من الاسم: "معي الحكيم محمود الدربي؟"، فيرد: "صحيح"، ثم بدأ الأول يمهد: "أكيد إنت مؤمن بقضاء الله وقدره"، نقلته هذه الكلمات إلى عالم من التساؤلات الداخلية التي تعاركت بداخله معتقدًا أن "شيئًا ما حدث لأحد أفراد أسرته"، لكن ما في جعبة المتصل، من الشرطة، غير ذلك: "أظهرت نتيجة الفحص أنك مصاب بفيروس كورونا".
انتهت المكالمة، وقذف طفله بعيدًا عنه، حتى وقفت زوجته مشدوهةً تنظر بكامل اتساع عينيها وخرجت عن صمتها: "صاير إشي؟!"، ليصارحها بأمر الإصابة، فتفهمت، لكن طفليه الصغيرين اللذين لم يتجاوزا من العمر ثلاثة أعوام لا يعرفان شيئًا عن كورونا، فواصلا البكاء، يريدان العودة لحضن والدهما، كان المشهد صعبًا على أمهما وهي تشدهما وتبعدهما عن والدهما، وصعب عليه لكن لا بد منه.
قصة الحكيم الدربي الذي "دفع ضريبة عمله" بدأت في 22 آب (أغسطس)، حينما عمل مدة 14 يومًا في مستشفى غزة الأوروبي لمتابعة العائدين من الخارج، ورجع إلى منزله في السابع من أيلول (سبتمبر)، بعدما أنهى مدة حجر للتحقق من خلوه من الإصابة، لكنه أُبلِغ بأنه مصاب بعد يومين من عودته للمنزل، ليعود إلى الحجر مريضًا هذه المرة في مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني حتى 23 أيلول (سبتمبر)، وقبل أيام استدعي للعمل مرة أخرى بمستشفى غزة الأوروبي.
يسحبه مشهد خروجه من المنزل، مطلقًا العنان لضحكة طويلة قبل كلامه قائلًا: "في البداية اتصل بي صديق، وأخبرني أن الشرطة على مدخل الشارع، وآخرون كتبوا في مواقع التواصل الاجتماعي عن إصابتي (...) في البداية تضايقت من الأمر، ولكن سرعان ما تلقيت الدعم من الأهل والجيران، والأصدقاء، والمسؤولين؛ فشعرت بالفخر".
تفكير، وتوتر، وقلق، وخوف، كلها مشاعر أحاطت به في يومه الأول بالحجر، لأول مرة يدخل المستشفى مصابًا لا حكيمًا، على وقع أسئلة تباغت تفكيره بين الفينة والأخرى: "معقول أشعر بالأعراض، عرق، وحرارة؟!".
كان المرضى حوله غير مطلعين على معاركه الداخلية، لكن كونه ممرضًا كان فرصة لأخذ مشورته، والاستفادة منه، يقول ضاحكًا: "أجبرت على ترك مخاوفي، والتسلح بالإرادة أمامهم، أخفف عن شعورهم النفسي، أرمم نفسياتهم وأعيد لهم التفاؤل، وهكذا تخطيت الأمر".
محطات، ومواقف، وروتين، عاشها محمود، لكن ثمة موقف لا يزال يذكره: "أصيب زميل لي؛ وكان قلقًا جدًّا على صحة والدته، وفي أحد أيام الحجر تلقى اتصالًا أن والدته توفيت، كنا نحاول التخفيف عنه، والحديث المتواصل معه، لكنه إلى الآن موجود بالحجر يعاني فقدان الشهية، فقدان الأم أصعب شيء، لم يتعافَ منه بعد".
"جولة ثانية"
أنهى الحجر، وعاد إلى أهله وقضى وقتًا جيدًا مع أطفاله، عوضهم فيه عن مرارة الغياب باللعب وكل شيء يحبونه، حتى تلقى اتصالًا آخر، ولكن هذه المرة هو مخير فيه: "جاهز ترجع على العمل، إذا نفسيتك كويسة؟"، ليلبي نداء الواجب: "أكيد جاهز"، ليخوض جولة ثانية في مواجهة الفيروس.
"فش إلا أنت؟!"، "بكفي مرة انصبت" أصواتٌ تصدر من زوجته وأمه تباعًا تطلبان منه العدول عن قراره خوفًا عليه، استوعب هذه المخاوف وبقي مصممًا: "يما هذا حالي وحال كل الشباب، كلهم لبوا النداء، لا أحد تخلى (...) إذا لم أخدم البلد فمن سيخدمها، أهالينا، وجيراننا، وأحباءنا، راضٍ رضا تامًّا"، بعد تلك الكلمات جاء القبول منهما: "روح الله يرضى عليك ويحميك ويحرسك"، وغادر تحفه تلك الدعوات.
كيف أمضيت الأيام الثلاثة الأولى في عودتك الثانية للمشفى؟، لم يتأخر بالرد، بعدما ابتسم صوته: "الجميع رحب بي، دخلت كالجندي المنتصر في معركة، أشعر بنظرات الفخر تنهال علي من الزملاء، لأني أصبت وعملت في المرة الأولى، وها أنا أمضي مرحلة ثانية، وعرضة للإصابة مرة ثانية، أشعر أني أعطي زملائي دفعات معنوية (...) في الليلة الأولى ظلت مخاوف الإصابة تساورني حتى غلبني النعاس ونمت".
"مريض مصري بغزة"
أواخر آب (أغسطس) أُبلغَ الدربي بأن سائقًا مصريًّا على شاحنات البترول قد أغمي عليه وسقط أرضًا، وسيُنقل إلى مستشفى غزة الأوروبي للعلاج، وتلقى الحكيم وزملاؤه توصية بالاعتناء به جيدًا.
لحظات قليلة حتى دوى صوت الإسعاف أمام بوابة المشفى، نقل السائق المصري -ويدعى مصطفى- على السرير لإدخاله المشفى، والطاقم الطبي في حالة استنفار، ليس لشيء سوى تقديم الواجب له.
الحكيم محمود ينظر إلى المريض وهو يدفعه بابتسامة، تخبره أن محبة الأشقاء لا حدود لها، ليقابله مصطفى بابتسامة أيضًا.
- "اطمن يا مصطفى إنت بين أهلك وناسك، حنرجعك بأسرع وقت لأهلك، لكن لازم نطمن على صحتك" تلك الكلمات كانت أشبه بسهم حب خرج من قلب الحكيم ليستقر في قلب المريض.
- قابلها الأخير بالإعراب عن سعادته: "والله شاكر ليكم معروفكم، بس لو تخلوني أكلم أهلي، عشان هم ميعرفوش أنا فين، أطمنهم عشان ميقلقوش".
- "طلبك أوامر، حتكلم أهلك ونلبسك ملابس تريحك".
ثوانٍ معدودات؛ اتصل هاتف مصطفى بإنترنت المشفى، وتحدث بمكالمة هاتفية (فيديو) مع زوجته وأطفاله الذين بقي على اتصال دائم بهم ليل نهار خلال مدة رعايته، وأخبرهم أنه يتلقى الرعاية الصحية بمستشفى غزة الأوروبي وسيعود لهم قريبًا، بعد أن أصابته ذبحة صدرية (يعاني أمراض القلب وفق إفادة الحكيم)، يجلس معه محمود ورفاقه لتسلية وقته والسهر على راحته، وتقديم العلاج، ورعايته، وتبديل ملابسه، وإعداد الشاي، والقهوة، فـ"أكرموا ضيفهم" الذي رفض أن يغادر المشفى دون أن يطلب منهم تسجيل مقطع مصور له، يشكرهم على ما قدموه له، وأنه "شعر فعلًا أنه بين أهله وأنه تشرف بهذه الزيارة".
غادر مصطفى المشفى، وهو يلوح بيديه للطاقم الطبي، يخص بنظراته الحكيم محمود ومن معه، يغرس وردة جديدة في بستان المحبة التي تجمع الشعبين لتعود إلى جذورها التاريخية كما كانت، ترتوي بهؤلاء الأشخاص، لوح مصطفى بيديه واعدًا بـ"إيصال السلام" الذي حمله إياه محمود ورفاقه، وإيصال "المحبة" التي تلقاها في غزة لأبناء شعبه.