بعد أربعة عشر عامًا من إجراء آخر انتخابات فلسطينية، يبدو في الأفق اتفاق وشيك بين فتح وحماس على عقد انتخابات تشريعية في وقت ليس ببعيد، يتلوها انتخابات رئاسية، ولكن هذه الانتخابات الوشيكة بحسب ما أعلنت حركتا فتح وحماس تبدو مختلفة تمامًا هذه المرة عن المرات السابقة من حيث الطريقة التي ستخاض بها الانتخابات، ألا وهي القائمة المشتركة، فقد تواردت أنباء مفادها أن حماس وفتح الفريقين الفلسطينيين المتناحرين المتنافسين توافقا على الدخول في قائمة واحدة مشتركة مختارة من الفريقين عبر الانتخابات القادمة.
لا شك أن الانتخاب حق سياسي مقصور على المواطنين ترشيحًا وانتخابًا نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق العالمية والإقليمية لحقوق الإنسان، وهو من ناحية موضوعية جوهرية، مفاضلة بين شخصين مرشحين أو أكثر وفقًا لاعتبارات كثيرة، أهمها عنصر الشخصية، أو مفاضلة بين حزبين أو حركتين وفقًا لاعتبارات كثيرة، أهمها مبادئ كل منهما، ويوازن المواطن الفرد بين الاثنين، ويختار أحدهما الأقرب لرأيه أو فلسفته أو قرابته أو بسبب عشيرته أو قبيلته أو ماله أو لونه أو أي اعتبار آخر، فالمواطن له كامل الحق في أن يختار مرشحًا ويصوت له دونما أي تأثير خارجي، ويُختَار أي ينتخب المرشح ترجمة لوعوده السياسية أو الاجتماعية أو الضريبية أو العمالية على أرض الواقع، ومن هنا تتميز كل حركة أو حزب بوضع برنامج انتخابي من أجل محاسبته فيما بعد على كمّ النقاط التي ترجمها إلى أفعال في المجتمع، ولإعادة الانتخاب من عدمه للفصيل أو الحركة حتى لا يكون الجمهور مطية انتخابية لأي منها.
معروف أن قوة الحزب تفرزها الانتخابات، لكن الحاصل الآن أن حركة حماس تشعر بأنها في الموقف الأقوى، ولذلك وبالرغم من التقاء مصلحتها مع مصلحة فتح في إحباط خطة إيجاد بديل لفتح وتسليم السلطة له ومن طريقه تمرير صفقة القرن والتطبيع، لن تقبل أن تهرول نحو إنقاذ فتح وحملها على أكتافها، وإنما تريد العمل معها لبناء واقع جديد يضمن تغيير البنية الحالية للسلطة الفلسطينية لإعادة بناء كل ما بني على أساس اتفاق أوسلو بالمعايير التي تراها حماس كافية لتبديد أي مخاوف أو شكوك لديها إزاء النوايا المستقبلية لحركة فتح، واشتراط مرجعية جديدة للعمل الفلسطيني تتمثل في اتفاق الوفاق الوطني، وما أثمره لقاء الأمناء العامين للفصائل أخيرًا وما ستثمره جولات اللقاءات الحالية.
هذا الموقف لحركة حماس جعلها تصر على أن إجراء الانتخابات لن يكون المدخل الوحيد لترتيب البيت الداخلي، وإنما أحد المداخل ترافقه مداخل أخرى، إصرارها هذا لم يأتِ من فراغ، وإنما له حسابات مستقبلية تعود على الحركة، أهمها: أولًا: خشيتها إجراء الانتخابات في سياق تقليدي وقوائم متنافسة قد تؤدي إلى فوز حركة فتح بالأكثرية، وتكون المحصلة هي تجديد الشرعية لحركة فتح التي يمكن أن تستمر في السير الذي نهجته منذ تأسيس السلطة.
ثانيًا: منع الاقتتال في الشارع بين أنصار الحركتين، ومنع أي تلاعب أو تشكيك بالعملية الانتخابية، ولضمان توازن معين في العلاقة بين الحركتين في مرحلة ما بعد الانتخابات؛ تقول حماس إنها لا تريد أن تكون الانتخابات مدخلًا لتجديد شرعية فتح وحدها، وإنما تريد أن تكون شريكًا "مؤثرًا" في هذه الشرعية.
ثالثًا: تشترط أيضًا أن يكون لها حق النقض، فلا يُسمح بدخول القائمة التوافقية لأي شخص عليه اعتراض، بحجة أن استعادة الثقة بين الطرفين هي ممر إجباري نحو الخطوات اللاحقة لإصلاح الوضع الداخلي، والانتقال نحو مرحلة العمل المشترك، وفي ذلك المقاومة "كل أشكالها".
ولعل من الإنصاف القول إن طلبات حماس لا تخلو من المنطق، مع تراكمات الشك وعدم الثقة بين الطرفين على مدى قرابة خمسة عشر عامًا، هي عمر الانقسام، ووجود مراكز قوى وأطر داخل جسم السلطة تتعارض مصالحها مع المصالحة أو النهج الجديد الذي تريد حماس استدراج فتح إليه (القائمة المشتركة).
بقي شيء يجب الأخذ به في الحسبان، وهو الاحتلال الذي يتربص بنا ويدعم انقسامنا: هل يستطيع الطرفان القيام بهذه الخطوات دون الأخذ في الحسبان رد فعل الطرف الآخر، أي الاحتلال، الذي لن يسمح بتعافي الوضع الفلسطيني، ولن يسمح بتهيئة الأجواء لخلق قاعدة صلبة لتفعيل المقاومة ضده بمشاركة فتح وحماس جنبًا إلى جنب والفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى، ولا يريد أصلًا إجراء أي انتخابات فلسطينية تجدد شرعية من يتحدث باسم الشعب الفلسطيني.
ولذا على كلٍّ من الحركتين أن تحسب خطواتها بدقة متناهية، وأن تأخذ في الحسبان عامل الوقت وخطر المماطلة والمراوحة في المكان نفسه فيما يتعلق بالتنفيذ، وأن ترسم خطواتها بتناسق وتناغم مع تجنيد وحشد الرأي العام الدولي لدعم جهود المصالحة ورؤيتها مدخلًا للتوافق والوحدة الوطنية لصد مخططات تصفية القضية الفلسطينية.