كتب كثير عن العبارات والمآثر الصهيونية الثابتة الهدف والمعنى والمصير، وقيل الكثير عن المشاريع الكبرى التي عبّر عنها الصهاينة الأوائل من هيرتزل صاحب مخطط: "إذا حصلنا على القدس يومًا، وكنت لا أزال حيًّا وقادرًا على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرونًا"، إلى بن غوريون الذي لحقه بعبارة: "ليست هذه نهاية كفاحنا، بل إننا اليوم قد بدأنا، وعلينا المُضي لتحقيق الدولة التي جاهدنا في سبيلها من النيل إلى الفرات"، ثم غولدا مائير التي قالت: "ليس عندي شك في أنه عندما يأتي اليوم الذي يكون فيه مكان حقيقي للسلام لن يتنازل أحدنا عن شبر واحد من الأراضي التي يمكن أن تضمن حدودًا آمنة"، ثم توالت تصريحات يعقوب شرتوك وليفي أشكول، وكل الآباء المؤسسين لفكرة إبادة ومحو أثر السكان الأصليين في فلسطين التاريخية، ونفذت خطط جبارة توجت بالنكبة ومجازرها ومذابحها، ثم تناسلت النكسات لبسط السيطرة على الأرض.
يحصل بنيامين نتنياهو على تصديق الكنيست الصهيوني على اتفاق "أبراهام"، ويشرح أبرز بنوده في تبديد لمخاوف اليمين، ويُسقط أكاذيب المُطبعين معه: "لا توجد ملاحق سرية ولا أجندات خفية ولا تَخلٍّ عن أي أرض"؛ فالمعاهدة مختلفة عما أبرم سابقًا مع مصر والأردن وفي أوسلو، التي ارتبطت جميعًا بشكل أو بآخر بالتزام إسرائيلي بالتخلي عن أراضٍ محتلة، يقول نتنياهو: "(إسرائيل) أصبحت قوة عظمى في مجالات التكنولوجيا والاستخبارات، وهذا حوّلها إلى قوة دبلوماسية أيضًا، (إسرائيل) تحت قيادتي لا تميل إلى القيام بانسحابات خطرة".
لا يغرد نتنياهو بعيدًا عن نشيد الآباء المؤسسين للصهيونية، ولا يخرج عن تعاليم التمسك بفكرة السيطرة وشطب الآخر، بل يحصل على تصفيق عربي وحبور وسعادة لوضوح صهيونيته القائمة على إخضاع أنظمة عربية لتعاليم السطوة والقوة الصهيونية، ومدها بكل السبل التي تمكنها من سد فجوة قائمة مع أصحاب الأرض التاريخيين، كما يحصل على مساندة لتقرِّع الفلسطينيين جامعتُهم العربية، وتعاقبهم أنظمة عربية ترى الاستيطان والتهويد والعدوان حاجة طبيعية.
بعد التصديق على الاتفاقية مباشرة تُقر حكومة الاحتلال خطط مصادرة جديدة للأراضي وبناء 5400 وحدة استيطانية، وخطة جديدة لتوسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، في حين استولى الاحتلال على أكثر من 11 ألف دونم في الأغوار الفلسطينية لمصلحة ما يسمى المحميات الطبيعية، إذ أعلن استيلاءه على 11,200 دونم، لمصلحة ثلاث محميات طبيعية في الأغوار الفلسطينية.
وتعبير "المحمية الطبيعية" يعني الطريقة التي يستولي بها الاحتلال على أراضي الفلسطينيين التي تخصص لاحقًا للبناء الاستيطاني.
في بقية المدن والقرى الفلسطينية من القدس إلى أريحا ومدن الضفة المختلفة، تتسارع عمليات المصادرة والاستيطان وتنفيذ الخطط الموضوعة لهذا الشأن، وكأن عملية التطبيع بين (إسرائيل) والإمارات والبحرين، وغمز الرياض والخرطوم ودمشق وبيروت والقاهرة لـ(تل أبيب)، أعطى أملًا كبيرًا لجمهور المستوطنين وحكومة نتنياهو في أن تمويل الاستيطان الضخم سيأتي من المشرق العربي، ومعظم الاستثمارات الضخمة التي تأملها (تل أبيب) من أبو ظبي والرياض والمنامة لتنفيذ مشاريع الاستيلاء على الأرض، وتسريع عملية التهويد القائمة، وبعد تغيير اللهجة العربية الرسمية في جامعتها، وخطاب وزراء خارجيتها مقابل إجراءات الاستيطان والعدوان القائم والتهويد، كل ذلك يكشف عن ميل هستيري جماعي متحول ضد الفلسطينيين، ومجتهد لتبرئة الصهيونية من جرائمها، وذلك جزء من شروط التطبيع الحاصلة.
استسلام عربي لواقع إسرائيلي على الأرض، من الاستيطان إلى العدوان، ومحاولة تشويه النضال الفلسطيني وحقوقه تنسجم مع أيديولوجية صهيونية قائمة منذ أكثر من قرن، وإذا كانت الهزيمة الأولى للنظام العربي تحققت مع نكبة فلسطين الأولى لعدم خوض القتال دفاعًا عن فلسطين، فهناك مسعى أن تتوج الهزيمة الكبرى بأن يصطف "دفاعًا عن (إسرائيل)" هرتزليون وبنغوريون عرب، يستبدلون ذاكرة النكبة، ويستنكرون ذاكرة الفلسطيني ومعاناته ومقاومته.