فلسطين أون لاين

مظاهر الحياة بغزة .. تفاصيل تحكمها "كورونا"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

على طاولة مستديرة تراجع هدى منصور مع صديقتيها ذكريات العمل، يحتسين القهوة، يجلسن تحت ظلال شجرة كبيرة تخفيهن عن حرارة الطقس في أول لقاء يجمعهن منذ جائحة كورونا، وفي مشهد آخر يغرق الشاب حازم أبو عاصي في تفكيره، على أحد المقاعد الأسمنتية، واضعًا بقربه آنية بها بعض المكسرات من "البزر والفستق"؛ يحاول التقاط أي مشترٍ لها، وبمنطقة الرمال في مدينة غزة حركة المواطنين محدودة.

قطع أبو عاصي مسافة طويلة قادمًا من منطقة عسقولة وسط مدينة غزة، لجمع بعض الشواقل وإعالة أسرته التي أثرت عليها الجائحة وأصبحت بلا دخل، فما كان من هذا الشاب إلا النزول والعمل وعدم الوقوف مكتوف اليدين أمام صعوبة الظروف.

بينما تحدث تلك المشاهد كانت صحيفة "فلسطين" تلتقط صورًا عدة لمظاهر الحياة في مدينة غزة مع أزمة فرضتها جائحة كورونا، وحكمت خلالها حركة المواطنين.

يتصبب العرق من ناصيته؛ تحت أشعة شمس الظهيرة، أمامه تجد ساحة المتنزه العام بمدينة غزة، يضيف عشرات المواطنين الموزعين كلٌّ في اتجاهه.

بملامح وجه شاحبة تعكس حاله، يقول: "خرجت من المنزل منذ الصباح فلدي زوجة وطفل، أريد إحضار الطعام لهما".

تبرز منه ابتسامة يتهكم بها على واقع الحال، بعفوية: "اليوم زي ما أنت شايف، رايقة على الآخر، لكن الحمد لله إشي ومنه وأحسن من القعدة، فالأوضاع صعبة كتير ولو الواحد ملاقي شغل كان بشتغل".

"كنت أعمل في السابق على سيارة ألعاب أطفال، أجني منها دخلًا جيدًا، لكن الآن لا يوجد حركة وخروج أطفال، لذلك لجأت إلى بيع المكسرات" يستمر هذا الشاب بالبيع والتجوال حتى الساعة الثامنة.

أما الشاب أحمد الحصري فيواصل النفخ بلعبة الفقعات المائية في مشهد مبهج وهي تتطاير في الهواء عاكسة ألوان الطيف بجمالها.

على قارعة الطريق، يواصل الحصري النفخ بلعبة الفقعات، تتسابق دفعات البالونات المائية للخروج بعد كل نفخة والخروج للهواء ثواني معدودات قبل أن تتلاشى، تنعكس في كراتها المتلألئة ألوان الطيف، مشهد منعش يبعث التفاؤل والأمل في النفس، ويجذب الناظرين، يعكس أجواء الفرحة.

لكن في داخله لم يكن شكل الحياة مبهجًا، لم يخفِ ذلك: "أوضاعنا صعبة على مستوى العائلة، وبيع هذه اللعبة يعيل نحو 20 فردًا، مضت ساعتان منذ أن بعت آخر لعبة منها، ومنذ ذلك الوقت أستمر بالنفخ وجذب الأطفال والأمهات حتى أظفر ببيع آخر".

مدة تسع ساعات، يقف على قدميه، يستمر في نفخ "بالونات الحياة"، ينعش من حوله بأجواء المرح، وينتظر من ينعش داخله، تمر الشمس فوقه وتغير اتجاهاتها، تتغير اتجاهات ظلال المباني من حوله، لكنه يبقى واقفًا دون حركة، تأكل الشمس من ملامحه الداكنة.

في ركن آخر من المتنزه العام؛ وتحت ظلال شجرة كبيرة تظلهن من درجة الحرارة المرتفعة في الأجواء، تجلس الأربعينية هدى منصور مع صديقتيها في أول لقاء يجمعهن منذ أكثر من أربعين يومًا، لقاء جدد مشاعر الحنين بين الصديقات إلى الأيام "الخوالي"، فهن موظفات يعملن في إحدى عيادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) واعتدن قبل الجائحة الخروج في لقاء خارج العمل.

تسلك الابتسامة طريقًا في ملامح هدى منصور سعيدة بهذا اللقاء، بعفوية تعلق: "هادا أول مشوار بعد الكورونا، زهقنا وانخنقنا بالدور".

"كنا نشتغل بعيادة واحدة، نأكل معًا، لكني استقلت وجلست بالبيت، واشتقت لصديقاتي".

لقاء الصديقات

على طاولة صغيرة مستديرة، تراجع الصديقات ذكرياتهن في العمل؛ يحتسين القهوة، بعدما فشل مشروعهن المقرر، تناول طعام مشترك في أحد المطاعم التي كانت حينها مغلقة، ويبدو أنهن استعجلن اللقاء قبل إعلان افتتاح المطاعم رسميًّا، لكن "لا بأس"؛ فكانت الشجرة الخضراء "أجمل مكان" يجمعهن بعد "غياب طويل".

لا يخلو اللقاء من إجراءات الوقاية، تنوب صديقتها أم محمد عنها: "هذا أول لقاء بيننا، لكن تقريبًا التزمنا الحجر الصحي، لا نخرج من البيت إلا للضرورة، فخرجنا من البيت ونحن نتبع إجراءات الوقاية من كمامة ومعقمات وتباعد اجتماعي (...) منذ ثمانية أعوام نلتقي كل شهر، فالإنسان يجب أن تجمعه علاقة صداقة مقربة ببعض الأشخاص كي تكون حياته بصحبتهم جميلة".

في أثناء مرورك بحي الرمال في مدينة غزة ترى عشرات من باعة البسطات، ينتشرون بمدينة غزة، حركة تنقل المواطنين ليست كما في السابق؛ يحاول كل واحد منهن جذب الزبون بطريقته، بتزيين البسطة نفسها، أو المناداة بعبارات تراعي الزبون وأهمهما: "لحق حالك"، ويتنافسون في تخفيض الأسعار، ومع ذلك لم تعد الملابس هي أولوية كثيرين كما ترى أمامك، فخلال جولتك بين المحال ستراها شبه خالية على عروشها.

على حبل تتدلى مجموعة ملابس جديدة تناسب فصل الخريف، علقها أبو محمد شملخ، أمام أحد المحال التجارية المغلقة، "لماذا لجأت إلى البيع في الجائحة؟"، يرد على سؤالنا بملامح تبدو مرهقة: "لا شك، لضيق الحال، تخرج من الساعة الحادية عشرة صباحًا حتى السادسة والنصف مغربًا، تحاول أن تعود لأسرتك بشيء قليل، بحكم حركة الناس المحدودة التي أثرت علينا".

يشير إلى أكياس على الأرض بها ملابس كثيرة، يضرب يدًا بيد: "جبتها قبل الجائحة والآن بدي أصرفها".

مغربًا بدأت الشمس تسحب أشعتها بهدوء وتختفي معها وراء الأفق، وتبّدل السماء ثوبها للأسود الحالك، بدأت حركة المواطنين من الشوارع تتسارع في آخر ساعة قبل الساعة الثامنة مساءً، في الأثناء يراقب شرطي المرور وسط مدينة غزة حركة السيارات المتسارعة مع اقتراب فرض حظر التجوال، هنا تتحرك أصابع محسن الدريملي، صاحب محل لبيع الخضراوات، على الميزان الرقمي كأنها آلة، لا تسمع إلا أصوات نقرات وأعداد حمراء تتسابق على شاشته الصغيرة.

"سباق قبل الحظر"

السابعة والنصف، يقف شرطي المرور على أحد المفارق، لتنظيم السير في حال حدوث تزاحم يعطل الحركة، فالسيارات تخوض سباقًا مع الوقت، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، كلٌّ يعود من مشواره إلى المنزل مع اقتراب الدخول في وقت حظر التجوال بمدينة غزة.

استقطعنا بعضًا من وقت "الدريملي"، يقول: "كما ترى الحركة تزيد قبل ساعة الحظر، بعض الناس يتذكرون أنفسهم في آخر الوقت، مع أننا كل يوم نأتي بالبضائع الجديدة صباح اليوم".

يقول المثل: "صبح بالخضرجي ومسي باللحام"، ولكن يبدو أن المثل انقلب حاله في أزمة فرضتها جائحة كورونا على الجميع، نقرت عقارب الساعة عند الثامنة مساءً وتلاشت حركة الناس، مع أصوات سيارات الشرطة، معلنة فرض حظر التجوال، حينما أصبحت الشوارع شبه خالية.

في صباح اليوم التالي، ومع إشراقة يوم جديد يحرك الشاب معتز أبو كويك قدميه بسرعة وقوة لتدور معها عجلات الدراجة الهوائية الثابتة، ممارسًا الرياضة في إحدى صالات نوادي اللياقة البدنية ورفع الأثقال، يحاول تعويض ما فاته، هو ومجموعة قليلة جدًّا من اللاعبين سمحت لهم إدارة النادي بممارسة الرياضة.

بينما هو على الهيئة ذاتها بأنفاس متقطعة يقول: "الوضع العام والجائحة أتيا على العالم أجمع وأثرا على قطاع غزة، خاصة الناحية الرياضية مع إغلاق جميع النوادي، والآن نعوض ما فات باللعب مدة ساعتين أو ثلاث ساعات، لبقاء الجسم كما هو، وعدم ترهل العضلات (...) أحافظ على وزني ولياقتي، كما أن الرياضة تعطي الجسم طاقة وحيوية ونشاطًا يفيد جميع وظائف الجسم".