تصل الأخبار تباعاً بأن هناك ضغوطات تمارس على رئيس السلطة أبو مازن من أطراف عربية لعدم المضي قدماً في تحقيق المصالحة والشراكة الفعلية مع حماس، وفي الجهة المقابلة ذكر السيد/ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أثناء خطابه في اجتماع الأمناء العامين للفصائل، أن حركة حماس تعرض عليها مغريات كبيرة جداً من أجل الموافقة على بعض ما يخطط له الاحتلال مثل إقامة كيان فلسطيني في غزة.
ما تقوم به هذه الأطراف العربية "طبعاً بإيحاءات صهيونية وتعليمات أمريكية" في الخفاء يناقض تماماً المواقف التي تبديها في العلن هذه الأطراف تجاه ملف المصالحة، حيث تبدى هذه الأطراف دعمها التام لأي جهود تبذل في إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الفلسطينية بل والسعي لاستضافة لقاءات المصالحة أو الاستعداد للعب دور الوسيط بين (طرفي الانقسام الفلسطيني).
لفهم هذا التناقض دعونا نحلل مواقف هذه الأطراف للتعرف إلى الدور الحقيقي الذي تقوم به بعيداً عن دهاليز السياسة التي لا نهاية لها.
لنرجع إلى الوراء قليلاً حتى تستجمع بعض الخيوط التي تمكننا من تتبع الأحداث واستجلاء المواقف.
حدث الانقسام الفلسطيني في عام 2007، وذلك بعد مرور ما يقارب العام على فوز حركة حماس الكاسح في الانتخابات التشريعية التي مهدت لها وساهمت في إنجاحها كل دول العالم تقريباً بما فيها تلك الأطراف العربية التي نتحدث عنها.
وبعد ظهور النتائج تنكر العالم لهذه النتائج بما فيها الأطراف العربية، وللأسف سقطت حركة فتح في هذا الفتح (عدم التسليم بالنتائج)، وذلك حسب ما ورد في شهادة عدد من قادة حركة فتح مؤخراً منهم القيادي البارز/ نبيل عمر، محمد دحلان وآخرين.
كان من مظاهر عدم احترام النتائج أن امتنعت الأطراف العربية (التي تمارس الضغوط الآن لمنع المصالحة) عن التعامل مع الحكومة التي شكلتها حركة حماس بعد رفض كافة الفصائل (للأسف) المشاركة في الحكومة العاشرة، الأمر الذي حدا بحركة حماس أن تشكل الحكومة منفردة.
تمنُّع حركة فتح عن تسليم السلطة للحكومة العاشرة أدى إلى وقوع صدامات كانت متوقعة لكل ذي بصيرة وكانت نتيجة هذه الصدمات حدوث الانقسام بشكله الذي ما زلنا نعايشه منذ ثلاثة عشر عاماً.
الأمر اللافت للانتباه أن الأطراف العربية التي تنكرت لنتائج الانتخابات بدأت بعد حدوث الانقسام باتخاذ مواقف داعمة لإنهاء هذا الانقسام ( التي كانت سبباً في حدوثه)، وبدأت مسيرة استضافة اللقاءات بين ( طرفي الانقسام) للم الشمل وإعادة توحيد النظام السياسي الفلسطيني، وخلال فترة الانقسام عقدت عشرات اللقاءات لإنهائه دون جدوى، وبقى الانقسام قائماً ويُغذّى من خلال ممن كانوا سبباً فيه من خلال المحافظة على معادلة التوازن بين طرفي الانقسام، فلا فتح برئاسة أبو مازن قادرة على إنهاء الانقسام بالإجراءات التي تتخذها ضد غزة، وحماس في غزة تخضع لحصار مقنن يسمح لها ببقاء أنفها فوق الماء دون أن تتمكن من الخلاص منه، استمرار هذه الحالة فيها مصلحة كبيرة للاحتلال الذي تقوم نظرية وجوده على إنكار وجود الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه التاريخية، ومن أعظم الهدايا التي يمكن أن يحصل عليها العدو هي تفتيت الشعب الفلسطيني وعدم وجود كيان فلسطيني واحد بقيادة واحدة مؤمنة بقضيته وتعمل على استعادة حقوقه من خلال عقيدة وطنية راسخة، وقد حقق الانقسام للاحتلال ما يصبو إليه طوال فترة الانقسام.
لذلك فإن الضغوطات العربية التي تحدث الآن لمنع تحقيق المصالحة جاءت لسبب واحد، وهو أن المصالحة التي تحدث الآن هي شأن داخلي فلسطيني وبمبادرة ذاتية فلسطينية وباتفاق فلسطيني فلسطيني دون تدخل خارجي ودون وصاية خارجية على مجريات أو نتائج اللقاءات، وهذا ما لا تريده أطراف رعاية الانقسام، لأن توحد الفلسطينيين (رغم ما بينهم من اختلافات فكرية وسياسية وهي ظاهرة طبيعية) سيؤدي إلى إنهاء الانقسام برؤية وطنية فلسطينية قائمة على التناقض مع الاحتلال، وسيدفع القضية الفلسطينية للأمام وينتزعها من غياهب النسيان التي عاشت فيها طوال الفترة الماضية، وكل ذلك يتناقض مع موجة التطبيع التي تروج لها الأطراف العربية التي كانت تدعي أنها حريصة على فلسطين وتدعو إلى الوحدة الفلسطينية، وما حديث بندر بن سلطان إلا كَشْف عن جزء صغير من ضغائن السياسة العربية تجاه الفلسطينيين وتعزيزاً للرواية التاريخية عن الخذلان العربي بل والتآمر العربي ضد فلسطين، وما واكبه من اتفاقات سرية معه على حساب القضية الفلسطينية في ممارسة خفية للشعار المرفوع الآن والذي يمارس منذ زمن (المصلحة لكل دولة عربية أهم من فلسطين) الأمر الذي مكن الاحتلال من تثبيت أركانه في فلسطين خلال السبعين عاماً الماضية.
إنَّ الفلسطينيين اليوم مدركون لحقيقة أن التوافق الفلسطيني الفلسطيني هو حبل النجاة لهم جميعاً، ولن يضمد جراح الفلسطيني إلا الفلسطيني، ولذلك حذارِ من أن تفلح الضغوطات في ثني القيادة الفلسطينية على طريق الوحدة التي سارت فيه، وإلا فنكبة ثالثة بانتظار شعبنا قد يكون لها أثر أكبر من نكبتي 48 و67، وفي التاريخ عبرة.