يوميًا ودون كلل أو ملل تحمل أم نسيم أبو رجيلة بعد صلاة الفجر، ما يمكن أن تحتاجه من أدوات بسيطة وتمشي بخطوات بطيئة قرابة ساعة إلا ربع لتصل إلى موقع أرضها القريبة من السياج الاحتلالي الفاصل، لتقضي يومها هناك "فليس هناك أجمل من الأرض".
هناك تراقب الشمس أثناء إطلاق أشعتها لتعلن شروقها ليوم جديد، وتأخذ جولة حول المزروعات والشتلات لتتفقد أحوالهم كما أبنائها، وتقف عند احتياجاتهم، وتسرح بجمال الطبيعة، ومن ثم تعدّ الطعام هناك لتعود بذاكرتها للحياة البسيطة التي كانوا يعيشها الأجداد.
أم نسيم، التي تقطن في بلدة خزاعة شرق خان يونس، وقبل أن تستهل مراسلة صحيفة "فلسطين" الحديث معها، وصلها صوت أحفادها وأبنائها عبر سماعة الهاتف وهم يؤدون الأناشيد الشعبية "على دلعونا وعلى دلعونا.. بلادي مزيونة من رب الكونا.. لاطلع ع راس الجبل واغني.. موال الهوا لاحلى عيونا"، وهي كما بعض السيدات اللواتي يرفض الإفصاح عن أعمارهن تقول: "خليه على البركة"، فضحنا سويًا، قبل أن ينتقل الكلام إلى علاقتها بأرضها، وتشبثها بها.
بدأت حديثها عن حبها لأرضها وتمسكها بها، لدرجة أنها لا تترك يومًا دون الذهاب إليها، فتقصد طريقها من الساعة الخامسة والنصف إلى موعد آذان صلاة العشاء، قائلة: "أخاف أن أتركها وحيدة، فلقد تعلمت الدرس من أجدادي وآبائي قبل 72 سنة، فلن أترك الأرض ما حييت".
"لن أستطيع أن أوصف لك جمال المشهد، فهو يطبّب أي وجع وألم، الأرض وجمالها ورائحة تربتها وهواؤها النقي، وطعم الخضار المزروعة نكهة أخرى، فبعد أن أشاهد شروق الشمس وروعته، وأتفقد المزروعات، أبدأ بإعداد طعام فطوري من خيرات الأرض كالسلطة، أحمل معي من البيت الأبيض والجبن، وأعجن الدقيق لأصنع خبزًا على فرن الطينة"، تقول أم نسيم.
ويلحق بها بعد ساعات أبنائها وأحفادها ويلتفوا حولها، لتصنع لهم أكلة تراثية، كالمطبق بالسكر والقرفة وزيت الزيتون، والذي كانت تعده أثناء إجراء اللقاء، لم تلتفت إلى عمرها فترى أن الذي يعمل لا يخافوا عليه لأنه يمتلك الحيوية والنشاط واللياقة أكثر من بعض الشباب.
بعد الانتهاء من الفطور تستثمر النار الموقدة لتبدأ بإعداد طعام الغداء من بعض الذي جنته من محاصيلها كالبامية أو اللوبيا، فتقضي طيلة نهارها في الأرض لتعود بذاكرها إلى حياة الأجداد والآباء الذي وطدوا علاقتها بالأرض مذ كانت طفلة.
وإذا شعرت أم نسيم بتعب أو إرهاق فإنها توقظ أحد أبنائها ليوصلها إلى الأرض، "الأرض روحي وحياتي، بعشقها، فإذا كنت مريضة هي دوائي وتنعشني".
وبعد أن تؤدي كل المهام التي عليها اتجاه أشجارها كالزيتون والمزروعات اللوبيا والبامية، وشتلات الباذنجان والفلفل، والفقوس وغيرها من تقليب التربة، ورش السماد، ورفع الأعشاب، وسقي الماء، تتفرغ للجلوس بصحبة أبنائها وأحفادها لينبشوا ذاكرتها أحاديث الأجداد وقصص مفتاح العودة، وتنهي حديثها معهم بوصيتها بتمسكهم بالأرض، وإذا رحل الكبار فإن المهمة تقع على الصغار.