فلسطين أون لاين

رويا لـ"فلسطين" رحلة الغياب في سجون "إخوة الجوار"

الصيادان "قنن" .. ثلاثة أيام لم يناما خشية أن تكون الحرية "حلمًا"

...
غزة - يحيى اليعقوبي:

صوت أطفاله المخبأ وراء الغياب يجعله حزينًا؛ يحاول إعادة رسم ملامحهم من جديد كي لا يغالبه النسيان، ينقش هذه المرة اللوحة في خياله، هي المساحة الوحيدة الفارغة أمامه، شرايين الخوف تتمدد في قلبه، في ليلته الأولى بسجون "إخوة الجوار" مبتعدًا عن البحر وهوايته مع الصيد، لا يصدق أنه لن يعود لملاحقة الأسماك، وإمساكها بشباكه، فشباك السجن وقضبانه تلتف عليه من كل جانب، حتى حجبت أشعة الشمس، وكان "المجهول" يرسم طريقًا آخر في مخيلته، لا يعلم أين نهاية هذه الرحلة وكم مدة الغياب، لكنه أيقن أن كل يوم يمر بعيدًا عن أطفاله يعادل عامًا في حسابات القلوب العاشقة لمحبيها.

في كل يوم كان يجدف بقارب الحنين، إلى ذكرياته مع أطفاله الأربعة، إلى "غزة" وأهلها، يود لو يطمئن عليهم، بمكالمة هاتفية، أو رسالة ورقية واحدة؛ لكن بقيت تلك الصور لأطفاله التي نجحت في الوصول إليه أنيسة الصياد رأفت قنن (35 عامًا) في سجنه بجمهورية مصر العربية؛ وابن عمه العريس طارق (30 عامًا) الذي عجز تمامًا عن رؤية الفرح طوال سبعة أشهر من الاعتقال، فلم يمضِ 29 يومًا على حفل زفافه حتى اعتُقِل، ليعلن الحزن فتكه بالفرح، ويوقد شموع "القهر"، مرت تلك اللحظات بطعم "العلقم" عليهما، رأفت بعيد عن أطفاله، وطارق بعيد عن زوجته التي تركها حاملًا في شهرها الأول، والآن هي تنتظره بشهرها الثامن.

تفاصيل القصة

وسائل الإعلام تحذر من "عاصفة التنين" التي ستحل بمصر، التحذيرات وصلت إلى صيادي غزة بعدم نزول البحر، حتى لا تتقاذف القوارب أمواج البحر الهائج، في يوم عاصف بارد ماطر، 14 آذار (مارس) 2020م، الصيادان رأفت وطارق ومرافق ثالث من العائلة؛ دفعتهم الظروف للمخاطرة بحياتهم لأجل "لقمة العيش"، إلا أن البحرية المصرية اعتقلتهم مدة سبعة أشهر، وأفرج عنهم نهاية أيلول (سبتمبر) من العام نفسه.

في أول لقاء إعلامي لهما مع صحيفة "فلسطين" بعد إطلاق سراحهما، رويا فصول القصة التي عاشاها.

ما إن وصل إلى الصالة الفلسطينية بمعبر رفح، حتى أمسك هاتفه، اتصل بزوجته لأول مرة منذ سبعة أشهر: "أنا رأفت!"، لقد زفر صوته الذي يجهش بالبكاء كل الألم الذي تحمله بعيدًا عنهم، أطفاله وزوجته كانوا على علم بخروجه، لكن ظلت الشكوك تراودهم، طفله أحمد عبر الهاتف لا يصدق: "هدا صوت بابا!، اشتقتلك كتير"، وذيلت الدموع توقيعها على حديث استمر نصف ساعة، تبعها ثلاثة أيام بمراكز الحجر بغزة، لم يزره النوم، لا يريد إغلاق عينيه خوفًا أن يصحو فيجد نفسه في السجن الذي كان موحشًا، ففيه غاب عن أطفاله.

جرف الموج

قصة اعتقالهم هكذا بدت كما يرويها رأفت: "في البداية فردنا الغزل قبالة سواحل محافظة رفح، لكننا كنا قريبين من الحدود البحرية المصرية، والموج مرتفع، فقد ضربت مصر يومها "عاصفة التنين"، العاصفة التي وصل تأثيرها إلينا جعلت الأمواج والرياح تجرفنا مسافة 200 متر داخل الحدود المصرية البحرية، لم نستطع السيطرة على المركب، وفجأة رأينا أصوات رصاص كثيف تحذيري ينطلق من قارب مصري مطاطي عليه خمسة جنود، وبه رشاش، ونقلنا عبره إلى موقع للجيش المصري، في حين استطاع مرافقنا الثالث العودة لغزة".

لم ينسَ تلك اللحظة: "ريح وبرد، ابن عمي طارق من شدة البرد أغمي عليه بعدما خلعنا ملابسنا في الهواء، فأمر الضابط بأن نرتدي الملابس".

"إنتم جايين على الحدود عشان تهربوا معدات؟"، "لا يا بيه" يجيب رأفت الضابط، ويوضح له: "إحنا صيادين وكنا بنصيد سمك عشان نطعمي أولادنا".

"في أول أيام السجن لم تكفِ مساحة الزنزانة لينام شخصان، فتناوبت مع طارق على النوم، أحدنا يمد قدميه والآخر يقف، حتى ذهبنا إلى سجن الإسماعيلية".

صورة دائمة

"لم يغب أطفالي عني نهائيًّا، كانت صورة أطفالي وأهلي أمامي، مر شهر رمضان، تذكرت وعد طفلي لي بعدما أتم ثماني سنوات: "بابا، رمضان هدا بدي أصوم معك"، ساعة السحور كانت تمر علي مرهقة داخل السجن، تمنيت عيشها مع عائلتي (...) في عيد الفطر تمنيت لو مت قبل أن أعيشه بعيدًا عن أطفالي، فقد اعتدت اصطحابهم لزيارة الأرحام" يرحل رأفت قنن إلى تلك الأيام المحملة بالألم.

بعد أربعة أشهر من اعتقاله؛ قاتل رأفت لأجل الحصول على صور أطفاله، فقد "نال الشوق منه ما نال" وقد دبت الحسرة أوتادها في قلبه: "من طريق محامٍ، وصلتني صور أطفالي، لكن الضابط أراني إياهم مدة نصف دقيقة فقط وأخذها في ساحة المحكمة".

بعد دقائق، حانت موعد جلسة المحكمة، لكن رأفت بعد انتهاء الجلسة، استأذن القاضي بطلب استعد له لأجل أطفاله: "سعادة القاضي، وصلتني صورة من غزة لأطفالي من طريق محامٍ"، القاضي بعدما وصلته الصور: "ربنا يخليلك إياهم"، وأمر بإدخالها معه للسجن، في الجلسة الثانية قبل أن يبدأ القاضي الكلام، سأله مبتسمًا: "صور أولادك فاضلين وياك؟"، فأخبره أنها معه.

لدى رأفت أربعة أطفال، وهم أحمد (10 أعوام)، ويزن (8 أعوام)، ويامن (4 أعوام ونصف)، وديالا (5 أشهر)، "ما راحوا عن البال والخيال، صوتهم، ضحكتم رافقوني طوال فترة السبعة شهور" هكذا لازمته مشاعر الشوق لأطفاله.

وبعدما قال: "تركنا مندوب السفارة (التابعة للسلطة الفلسطينية) خمس ساعات بالصالة المصرية ونحن لا نحمل نقودًا لدفعها تذاكر عبور (...) مندوب السفارة لم يفعل شيئًا لنا"، أصر رأفت على توجيه الشكر للمدير العام لهيئة المعابر بوزارة الداخلية في غزة العميد فؤاد أبو بطيحان، قائلًا: "مع أننا لا نعرفه، حينما علم بالأمر أرسل مبلغًا لنا وأدخلونا لغزة، وحظينا باستقبال كبير" .. "فعلًا حسيت إني بين أهلي".

غياب وحرمان

لا يزال أثر حرمان العريس فرحته غالبًا على صوت ابن عم رأفت (طارق): "لما أخدوني كنت متزوج فقط إلي 29 يومًا؛ إنت شوف الواحد بتكون محوش ومستني اللحظة الحلوة يدخل حياة جديدة ويشوف الدنيا، وعارف وضع غزة، وتلاقي هيك انقلبت الدنيا بوجهك، وتلاقي حالك محبوس سبعة شهور، ما بعرف قديش بدنا أيام حتى ننسى اللي عشناه".

أما روتينه اليومي: "كنا ندعي الله أن يمر اليوم، حتى نعد يومًا آخر، هناك لا يوجد تواصل مع الأهل".

في اليوم الأخير هل أخبرت أنك ستغادر؟، "لا؛ عرفنا بأنفسنا" -يرد بعدما زفر تنهيدة ربما أخرج بها كل الألم المحمل به- "نقلنا إلى غرفة جيدة، وجاء ضابط، فسألته: "وين بدك تودينا؟"، كان رده مطمئنًا لنا: "إن شاء الله خير"، شعرنا أننا سنخرج (...) لكن ظل شعور الخوف يسيطر علينا، حتى مررنا بمعبر رفح وتأكد لنا أننا سنعود إلى أهلنا، وكانت أجمل لحظة في حياتي".

"أتدري؟" -ابتسم صوته لأول مرة بضحكة طويلة- "ربما سيقول الجميع عنا مجانين، إن قلت لك إننا لما ذهبنا إلى الفندق للحجر بغزة، لم ننم ثلاثة أيام متواصلة، كنا نخشى النوم ونستيقظ لنجد أنفسنا بالسجن، لا نريد إغماض عيوننا، إلا أننا لم نقوَ على الصمود واستمرار الاستيقاظ ونمنا مرهقين".

يعلق على سبب اعتقاله الذي لم يعرفه حتى اللحظة: "مش جريمة إنك تكون على الحدود وتروح تصطاد، الصياد إنسان بسيط ببحث عن رزقه، كان وجودنا ساعة زمن نرمي "غزل وشبك"، لو أي واحد إجا قال روحوا كان روحنا، بدون إطلاق نار واعتقال".

يجلس الآن طارق مع ابن عمه رأفت، في أحد فنادق الحجر المطلة على شاطئ بحر غزة، يراقبان البحر الذي غابا عنه سبعة أشهر، يغافلهما الحنين إلى المياه، وإلى الأسماك، يبكيان على تلك الأيام التي أبعدتهما عنه، فهما كما حال الأسماك تموت إن خرجت من البحر: "لقد "متنا وردت إلينا الروح الآن"، يقول طارق: "تعاملت معنا وزارة الداخلية في غزة بلطف، وكل شيء متوافر لنا، من لحظة دخولنا غزة؛ لكني مشتاق إلى أهلي وعائلتي، إلى زوجتي الحامل الآن بشهرها الثامن، كنت أتمنى أن أكون بجانبها، وأنا في السجن كنت دائمًا أفكر: "هل استمر حملها، أم أجهض؟، وأين هي الآن؟"، فقد كنت أعيش في بيت بالإيجار"، يبتسم مرة أخرى: "عوضني الله".