في هذه المرحلة من الزمن الفلسطيني المتتابعة تغيراته ثمة توافق وإجماع على ضرورة انتهاج المقاومة، سبيلًا لمكافحة الإجراءات الصهيونية المختلفة، من انتهاكات يومية ومخططات استيطانية يتم تنفيذها على الأرض تلبية لخطة ضم الأغوار ومساحات شاسعة أخرى من الضفة الغربية، وحصار غزة، وتهويد القدس.
الخلاف هو على آليات هذه المقاومة، فبينما تركز قيادة حركة فتح على الشكل الشعبي لها حصرا، وتحديدًا محمود عباس الذي لا يود مصادمة (الشرعية الدولية) والخروج عن إطارها، فإن مجمل الفصائل الأخرى ومن ضمنها قاعدة واسعة في حركة فتح تؤمن بالمقاومة المسلحة، وبضرورتها وبجدواها. لكن المهم بشكل عام هو وجود توافق على ضرورة انتهاج المقاومة، وهو وضع لم تعد تناوئه الحسابات السياسية للمستوى الرسمي في السلطة وحركة فتح، وهو الذي كان دائمًا ينادي بتعطيل المقاومة لأجل إعطاء فرصة لمشروع التسوية، عبر مراحله المختلفة.
أن تصل الحالة الفلسطينية إلى خلاصة ترجّح كفة المقاومة كخيار على حساب غيرها من خيارات ومسارات هو تطور مهم، وما كان ليحصل لولا ثبوت انتكاس مشروع التسوية بعد الضربات المميتة المتتالية التي وجهها له كيان الاحتلال الإسرائيلي، حيث مرغ قادة الاحتلال صفحاته بالتراب، وتنكبوا لكل عهودهم السابقة لشركائهم الفلسطينيين في هذا المشروع، فيما أضيف إلى ذلك كله انسحاب دول أساسية في النظام الرسمي العربي من رعايتها الشكلية لمسيرة التسوية والمفاوضات بسقفها التقليدي، نحو سقف أدنى بكثير، وهو ما كشف ظهر قيادة السلطة الفلسطينية، كونها لا يمكن أن تغامر بالانغماس التام في تجليات الرؤية الاستسلامية التطبيعية العربية الأخيرة.
كل هذه التغيرات جاءت لصالح مشروع المقاومة كمنهج، حتى مع وجود خلاف على أشكالها الأجدى، إنما ثمة قناعة عامة بالحاجة لتفعيلها، وهو خلاف قد لا يكون من المفيد كثيرًا التوقف عنده قبل النظر في المتاح أصلًا من أشكال هذه المقاومة. وحين نقول المتاح فالمقصود –مكانًا-في ساحة الضفة الغربية، ميدان المواجهة المركزي، والمحتاج نهضة جذرية في أدوات المقاومة ووسائلها وإمكاناتها، وعلى مستوى الوعي أيضا.
ولا تعني الحاجة لاستنهاض المقاومة في الوعي الفلسطيني أن جمهور الضفة الغربية معارض لخيار المقاومة أو زاهد في فاعليتها، بل على العكس، وليس أدلّ على ذلك من حالة الابتهاج التي تصيب هذا الجمهور عند حدوث عملية مقاومة في الضفة، أو وهو يتابع إنجازات المقاومة في غزة، خلال الحروب الصهيونية عليها، أو أثناء جولات التصعيد المحدودة.
لكن ما يحتاجه هذا الجمهور اليوم اكتساب الثقة بأن تضحياته لن تذهب هدرا، وستكون مجدية في إطار مشروع المقاومة العام، وأول متطلبات تلك القناعة الاطمئنان إلى أن ظهره سيكون محميًا من الخلف، ولن تناله أيدٍ فلسطينية بالأذى عند أول خلاف من ممثلي مسار المقاومة، أي القناعة بأن التوجه لتفعيل المقاومة هو خيار استراتيجي وليس خطة تكتيكية آنية، قد تتوقف إذا ما لاح وعدٌ ما من جهة خارجية يُغري بتحصيل مكاسب سياسية على مائدة التفاوض.
عمليا، تقول التجربة إن الإنسان قادر على مجابهة أذى اعدائه، والنهوض بعد كل ضربة مهما كانت قاسية، لكن حصار أبناء جلدته إياه وتكبيلهم أطرافه وإجهاضهم عنفوانه يُضيّق عليه الخناق ويقتل براعم انطلاقه في مهدها.
لن يعدم الجمهور الفلسطيني تقديم النماذج المضحية المقدامة، لكنّ ثمة حاجة لاسترداد ثقته أولا، ولإشاعة أجواء من الاطمئنان في صفوف من يُراهَن عليهم لحمل لواء المواجهة، وللقطع مع عهود الاستسلام والخيبة السابقة، والامتناع النهائي عن لعب أي دور لصالح تأمين جبهة المحتل. وفي حال استردت الجماهير ثقتها بجدوى ما يمكن أن تبذله، وبوجود تغيّر حقيقي في نوايا وتوجهات ودور الداعين اليوم للمقاومة الشعبية، فلن تكون هنالك مشكلة في اجتراح الأدوات والوسائل والآليات، فكل مرحلة تفرز ما يناسبها منها، إذا كانت روح نخبتها الرائدة في التضحية متعافية، ومطمئنة إلى سلامة ظهرها، ومبصرة مواضع أقدامها، وموطن خطوتها التالية.