محادثات دافئة في تركيا وصفت بالإيجابية، جمعت أكبر فصيلين في الساحة الفلسطينية حركتي فتح وحماس. وقد جاءت لمناقشة توصيات اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الذي عقد مطلع الشهر الجاري بين رام الله وبيروت، فما الذي حملته هذه المحادثات؟ وهل يمكن هذه المرة تجاوز الانقسام وترتيب البيت الفلسطيني؟ وما دلالات اختيار المكان من النواحي السياسية؟ وما التحديات التي يمكن أن تواجه أطرافه؟
لا شك أن القضية الوطنية تمر في مراحل خطرة في ظل استمرار العدوان، والاستيطان، والخطوات الأحادية، وفرض الإملاءات الأمريكية، وانهيار بعض الأنظمة العربية وانسلاخها عن القيم العروبية والوطنية، واستسلامها لـ"إسرائيل" عبر جريمة التطبيع وتحول بعض الدول العربية لمستوطنات إسرائيلية، يمر كل ذلك في ظل انقسام سياسي حاد في الشارع الفلسطيني أصاب كل المؤسسات وقسم الوطن إلى شطرين وخلق نزاعا بين البرامج وأورث شعبنا موروثا مؤلما من الفقر والمعاناة والتدهور في كل الصعد.
فالحصار الاقتصادي والسياسي بلغ ذروته في قطاع غزة، والضفة ليست أفضل حالا في احصائيات الفقر والبطالة وارتفاع منسوب الجرائم التي يرتكبها العدو الإسرائيلي فهي ترزح تحت حصار من نوع آخر هو حصار الجدار العازل والحواجز الممتدة، وتعرض الرئيس الفلسطيني مؤخرا لضغوط متواصلة وشعوره بالعزلة الدولية وانخفاض مستوى الدعم، وإحساسه بتخلي بعض الأنظمة عن دعمه، وإجراء مباحثات سرية سرب بعضها من خلال بحثهم عن بدائل مفترضة لعباس.
هذا وغيره من الأحداث السياسية والمتغيرات في المنطقة وعلى رأسها التطبيع العربي دفع الرئيس الفلسطيني لاتخاذ خطوات (غير مألوفة) منها طلبه من نظيره التركي رجب طيب أردوغان دعم جهود المصالحة الفلسطينية والتوجه لانتخابات عامة، خطوة قد لا تكون عادية من حيث الدلالات السياسية، فالرئيس الفلسطيني يريد بهذه الاستدارة وهذا المنعطف المفاجئ إيصال رسالة غضب واحتجاج لأطراف عدة، منها القاهرة والامارات وأطراف أخرى تسعى للتطبيع وخذلت السلطة مؤخرا ولم تدعم مواقف الرئاسة، واستغلال النفوذ التركي في المنطقة في احداث تحول استراتيجي في هذا الملف وتوفير الدعم من خارج الأطر العربية.
خطوة ربما يكون لها حسابات مختلفة من قبل القاهرة فهي تنظر لتركيا والرئيس أردوغان بأنها دولة يرأسها زعيم اخواني وهناك قطيعة دبلوماسية بين البلدين الآن، والاعلام في كلا البلدين لا يتوقف عن مهاجمة السياسات الداخلية والخارجية التي يمارسها كلا الزعيمين، وقد تجلب هذه الخطوة من قيادة السلطة غضب القاهرة إذا ما تبين لها أن الجهد التركي بديل عن دور القاهرة، لذلك فإن التصريح بأن الوفد سيزور قطر ثم القاهرة قد يذلل هذه المخاوف ويبرز حرص الأطراف على البناء على الدور المصري بالرغم من خطوة الرئيس عباس هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن حركة حماس التي تمثل طرفا في هذه المعادلة وجزء من هذا الحوار لا تزال تمارس أداءها السياسي بهدوء وتتقدم بخطى ثابتة ومتوازنة، ولا تنساق لأي انحرافات هنا أو هناك، معتبرة أن أي ساحة يمكن استثمارها لدعم جهود المصالحة، على قاعدة اقتناص الفرص، ومراكمة الجهد، وكسب الدعم الحاصل من دول عربية أو إسلامية، وفي ذات الوقت تدرك أهمية الدور المصري وتعتبر أن الحراك الحاصل لا يمكن أن يكون بديلا عنه.
لذلك فإن أي قطيعة مع مصر هي حرق للسفن، وهذا ما يدفع الحركة لتعزيز العلاقة وتطويرها وإبقاء المصريين مطلعين أولا بأول، فالجهد المصري في هذا الملف إستراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه، لكن هذه الخطوات في مجملها تسير على (حقل ألغام)، فـ(إسرائيل) تتابع ما يجري من كثب ولن تسمح بالتقارب بين فتح وحماس وربما تتدخل في وقت الذروة لإفساد كل شيء ليس وحدها بل بتواطؤ عربي وضوء أخضر أمريكي.
لأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم اللاعبين في المشهد وهناك أطراا أخرى ترى في بقاء الانقسام هدفا استراتيجيا لتشتيت الموقف السياسي الفلسطيني، واجهاض أي عمل وحدوي وإبقاء الصراع الفلسطيني الفلسطيني قائما، فذلك من شأنه دعم مشروع التطبيع، واستكمال فصول صفقة القرن، ومحاولة فرض شرعيات جديدة تحظى بدعم دولي عبر دعم بعض الشخصيات لإدارة السلطة لتمرير المخططات التصفوية.
صحيح أن المحادثات توصلت لتفاهمات مهمة على نقاط مركزية ومنها إنهاء الانقسام الداخلي، ووضع استراتيجية لمواجهة التحديات، وعلى رأسها الخطة الامريكية، والتطبيع العربي، إلا أن ذلك ليس كافيا، وما دمنا نخشى الافساد والتطفل من أطراف أخرى فعلينا العمل لحماية هذا الاتفاق، من خلال حشد الدعم العربي والغربي لهذا الاتفاق، وتجاوز أخطاء الماضي، عبر تخطي أي عقبات مفاجئة قد تؤثر على تطبيق الاتفاق، وتفعيل أدوات الضغط على تل أبيب، من خلال رسائل واضحة بأن أي تدخل إسرائيلي سيواجه بغضب فلسطيني ومواجهة شعبية عارمة تجتاح كل الأراضي الفلسطينية.