فلسطين أون لاين

في "العناية المركزة" .. 45 دقيقة "حبست أنفاس" الطبيب "دبو"

...
غزة - يحيى اليعقوبي:

"انتبه؛ حدث هبوط حاد في ضربات القلب"، "سأتفحص هل يوجد نبض؟، "لا؛ لا يوجد، ابدأ بعمل إنعاش قلبي" أصوات الطاقم الطبي متسارعة؛ فقد كانت السيدة الممددة على السرير الطبي للتو في حالة تحسن، داخل غرفة العناية المركزة بمستشفى غزة الأوروبي، والآن "لا تكاد تلتقط أنفاسها".

على الفور؛ وضع الطبيب أحمد دبو يده فوق الأخرى وبدأ بعمل إنعاش قلبي بالضغط على الصدر مرات عديدة يحاول استعادة النبض، ثم إعطاء حقنة وريدية (الأدرينالين)، يسأل الممرض: "هل يوجد استجابة؟، افحص النبض"، وضع الأخير إصبعه على رقبتها يتحسس أي نبض خافت يطمئنهم، ثم نظر إلى الشاشة بعدما تصببت ناصيته عرقًا: "لا، لا يوجد".

تابع الطبيب الضغط والإنعاش، يطلب من الممرض: "حضر حقنة أخرى من الأدرينالين"، لكن محاولة الطبيب هذه فشلت بإعادة النبض، ليذهب إلى الخيار الأخير بإعطائها الصعقة الكهربائية، واستمر التدخل الطبي أربعين دقيقة متواصلة يحاولون إعادة النبض، لكن كانت الروح قد فارقت الجسد، وسكن النبض نهائيًّا، ووقفوا بجانب السيدة المتوفاة يلقون عليها النظرات الأخيرة.

د. أحمد دبو يعمل طبيب عناية في المستشفى الإندونيسي منذ ستة أشهر، وسبقها عمله مدة ستة أشهر في قسم الباطنة بمستشفى "بيت حانون"؛ وقبلها عمل معيدًا في كلية الطب بالجامعة الإسلامية عامًا، قبل أن ينتدب إلى قسم العناية المركزة بمستشفى غزة الأوروبي مدة 14 يومًا، واجه فيها مواقف عديدة، لكن موقف حالة الوفاة تلك لم ينسه.

 

 

تحسن وتدهور

مشهد السيدة المتوفاة لا يفارقه، لكنه هنا يعود في حديث مع صحيفة "فلسطين" إلى ما قبل تدهور حالتها: "كانت على تنفس صناعي، وكانت حالتها الصحية في تحسن، ووصل تشبع الأكسجين وغازات الدم إلى قيم جيدة، وتوقعنا لها النجاة، ولكن في لحظة ما وبعدما حضرنا الأدوية، وعاينا أجهزة التنفس والمراقبة، وكان كل شيء في نصابه، وكانت علامات الحالة الحيوية مستقرة، بعد دقائق بدأنا نشاهد هبوطًا في تسارع دقات القلب ثم توقف عمله".

"عملنا اللازم مدة 45 دقيقة، ولكن دون جدوى، وإذا أحد أفراد الطاقم يقول: نحن نفعل كل شيء ولكن هناك أشياء لا يمكن توقعها، ومن لا يكتب الله له النجاة فلن ينجو (...) حينما يحدث هبوط نقوم بعمل "إنعاش قلبي CPR"، وهي أصلًا متصلة بأنبوب تنفس صناعي؛ وأيضًا مع الإنعاش يجهز دواء "الأدرينالين"، وجهاز الصعقة الكهربائية، لإعطائها في الوقت المناسب"، وهذا ما فعله الطبيب، لكن لم يكتب للسيدة الحياة.

مساء الخميس 27 آب (أغسطس) 2020م، انتهت مناوبة الطبيب في قسم العناية المركزة بالمستشفى "الإندونيسي" التي استمرت 24 ساعة؛ بعد أخذ مسحة منه لفحص "كورونا"، وذلك لتبين وجود إصابة داخل العناية.

أبلغ بالنتيجة "السلبية" عشاء اليوم ذاته؛ وقبل أن يرتخي جسده الساعة الحادية عشرة ليلًا، رن هاتفه، وكان المتصل رئيس القسم، هواجس كثيرة سيطرت عليه قبل الرد على المكالمة، اعتقد أن هناك أمرًا ما بخصوص عينة الفحص، لكن كان الطلب مغايرًا، فأبلغه أنه انتدب للعمل بالمستشفى "الأوروبي" ١٤ يومًا؛ فاستقبله بـ"صدر رحب"، فقد طلب هو سابقًا انتدابه.

في القطاع كانت الأحداث متسارعة، الموجز اليومي لمركز المعلومات الحكومي يعلن تشديد الإجراءات، مع ازدياد حالات الإصابة بفيروس "كورونا".

 

 

في داخل منزل دبو كذلك لا يوجد وقت لدى الطبيب المنتدب: "بعد صلاة الفجر أبلغتهم أني سأذهب إلى الأوروبي أسبوعين، حزمت أغراضي وتوجهت لحافلة الوزارة التي جاءت لتأخذني، وكان ذلك الساعة السابعة صباح الجمعة (...) أما ردة فعل أهلي وزوجتي فلم أنتظرها لأني أبلغتهم الخبر على عجل وذهبت أجهز أغراضي؛ ثم ألقيت التحية على أبي وأمي وزوجتي وخرجت".

"التعامل مع المرضى في العناية يحتاج لحذر أكثر، ولارتداء واقيات شخصية أكثر نظرًا لاقتراب الطبيب أو الحكيم من المريض وملامسته وكثرة الإجراءات للمريض، وتكون المراقبة للمرضى أكبر لأن منهم على أجهزة تنفس صناعي، وباستمرار يجب مراقبة العلامات الحيوية وتشبع الأكسجين؛ فإن حصل شيء وانخفضت أحد هذه القياسات فعليك أن تهرع إلى ارتداء الملابس الواقية والدخول للمريض" هذا مشهد عام للعمل داخل غرفة العناية المركزة.

مشاهد من المشفى

المشهد مصغرًا أكثر: ثلاثة مرضى منومون على أسرة طبية، ثلاثتهم على أجهزة تنفس صناعي، الطبيب يدخل الغرفة مرتديًا الملابس الواقية وغطاء الوجه وكمامة n95 وكأنه "رجل فضاء", الممرضون يقدمون الرعاية اليومية لهم ويقومون بالفحوصات اللازمة دوريًّا.

"الشيء الجديد والأصعب هو ارتداء كمية الواقيات الشخصية التي تعيق الحركة؛ وتقلل الرؤية؛ وتكتم على نفس الطاقم"، ومن الصعوبات أيضًا خلع تلك الملابس لأنها تكون ملوثة.

يقرب الطبيب الصورة أكثر: "في داخل العناية شاب اسمه "محارب" بقي محجورًا داخل القسم مدة 14 يومًا لم يخرج منه، وكان لديه رشاشة بها كلور يرقبنا ويعقم الأسطح والأرضيات خلفنا، كان الواحد منا إذا نسي شيء يذكره محارب، فكان كصمام الأمان لنا".

المستشفى كان مقسومًا إلى قسمين: سكن العاملين والمشفى الذي به المرضى، عندما يأتي دور الطبيب في العمل يتجه من السكن نحو ممر به واقيات شخصية، يرتديها ويكون غيره من الطاقم كذلك في هذا الممر ليبدؤوا عملهم، ثم يتوجهون عبر ممر آمن كل إلى قسمه لقضاء مدة عمله، وبعد انتهاء العمل يعودون عبر ممر آخر ليصلوا لمكان خلع الملابس، وهذا المكان به حمامات للاستحمام، ثم يرتدون ملابس نظيفة يجهزها العمال ويذهبون إلى السكن".

"في السكن كنا موزعين على الغرف كل اثنين في غرفة، داخل المشفى هناك قسم الطوارئ الذي يحدد ما يحتاج له المريض حسب حالته (الذهاب للمحجر، أو القسم، أو العناية)، وفي أقسام المبيت يكون طبيب لاستقبال الحالات وتحديد العلاج ومتابعة المرضى، وكذلك في قسم العناية المركزة".

كيف يعالج مريض العناية؟، "يُقيّم من حيث حاجته لأنبوب رغامي وتنفس صناعي أو عدمها" -يرد- "أيضًا يتابع ويعطى السوائل الوريدية، والأدوية من مضادات حيوية لمنع الالتهاب البكتيري المصاحب، وخافض حرارة، ومضاد فيروسات ومضاد التهاب "ديكورت"، وغيرها من الأدوية اللازمة، وتتابع غازات الدم وصورة أشعة الصدر والتحاليل الأخرى".