على شاشة التلفاز ظهرت صور لسفينتين حربيتين بريطانيتين غارقتين قبالة ساحل غزة، أصوات التكبيرات تخرج من منازل الجيران؛ في الصورة رجال كتائب الشهيد عز الدين القسام يغوصون في البحر ويستخرجون قذائف عمرها مائة عام، وفي منزلها ساقتها نفسها إلى صورة ابنها "بلال" (20 عامًا) تعانقه بنظرة فخر، في حين سحبتها ذاكرتها إلى 18 كانون أول (ديسمبر) 2014م، حينما ارتقى في إثر "انفجار عرضي في أثناء الإعداد والتجهيز".
ربطت بين المشهدين فاكتمل في قلبها مشهد الفخر، ذرفت هنا أم الشهيد "بلال المنيراوي" دموعها بنشوة، موقنةً أن دماء ابنها شهيد الإعداد التي سالت بعد العدوان على غزة ببضعة أشهر، عبدت الطريق لرفاقه، ورسمت خطوط "العزة والكرامة" كما رأتها أمام عينيها.
بعد لحظات؛ سرعان ما جدد الأقارب والأحباب، باتصالات انهالت عليها، الإشادة بتضحية "بلال" كما سائر شهداء التجهيز والإعداد، في طريق المقاومة وبطولاتها التي "أثلجت الصدور"، وقد اشتد عود المقاومة وثقلها؛ وهي تغرس جذور قوتها في أوتاد "طريق الحق"، طريق لا يروى إلا بدماء الشهداء.
كان صوتها هذه المرة منتشيًا بالفخر، بعدما أثلج صدرها صور السفينتين التي عرضت في برنامج "ما خفي أعظم" على قناة الجزيرة، الذي أظهر كيف استفادت المقاومة من مخلفات قذائف الاحتلال في عدوان ٢٠١٤م، وقذائف السفينتين الغارقتين في صناعتها العسكرية "الصاروخية".
هذا الإنجاز أدخل إلى قلبها فرحًا بأن طريق الإعداد الذي سار فيه ابنها الشهيد، هناك من يكمله: "سعيدة أن الله رفع ذكره وكل من سار في الطريق".
اليوم الأخير
في آخر يوم له، وقبل أن يخرج من المنزل لاحظ بلال شيئًا لم يستطع تفسيره على ملامح والدته، بعدما سلم عليها وقبل رأسها ويدها طالبًا منها أن يحقق الله أمنيته: "يما ادعيلي ربنا يحقق اللي ببالي (الشهادة)"، لكن أمه "شدت على يده"، وهي تنظر إليه وكأن رياح الفراق هبت على قلبها دون أن تدري، حتى كسر صوت بلال المشهد: "يما مالك؟!، بحكيلك ادعيلي"، ارتخت كف يدها وتفارقت اليدان، ودعت له: "روح يما الله يرضى عليك".
18 ديسمبر ٢٠١٤م: باب البيت يقرع عدة مرات؛ جيران، ووجوه غير مألوفة تسأل عن والده، أم "بلال" لم تجد تفسيرات لما يحدث بعد، أو لم تعرف طبيعة ما يدور بالخارج، ولم يشأ الوافدون إعلامها بالأمر، إلى أن جاء زوجها ومهد لها الخبر تدريجًا وأوقع خبر استشهاد بلال في قلبها، وكأن صاعقة هزته، إلا أنها استرجعت الله في مصابها: "اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها".
كانت أم بلال تتوقع هذا الخبر، فقد كان ابنها ينافس على الشهادة، لكن الذي لم تعرفه هو أن قلب الأم لا يعرف التوقعات، وأن وقع الرحيل والفراق ثقيل ويترك ندبة حزن لا ترحل أو تفارقها، مهما غلبها النسيان، أو أشغلتها الحياة، فطيف الشهداء لا يغادر البيت، وصورهم المعلقة على جدران المنزل تجدد الذكريات، في كل ركن من المنزل يوجد ما يوقد نيران الشوق ليبقى موقد الذاكرة مشتعلًا لا ينطفئ.
تعود لطفولته: "من لما كان عمره ست سنوات، وكنت بحمله وكأنه شهيد وبهتفله: "الشهيد حبيب الله" من هان بدأ يتعلق بالشهادة".
ثورة ومقاومة
كبر بلال وكبرت نيران الثورة والمقاومة في داخله، يحب جمع صور شهداء انتفاضة الأقصى منذ صغره، يذهب في جنائز الشهداء ويعود بصورة الشهيد أيًّا كان انتماؤه السياسي ويحتفظ بها، فجمع الكثير منها، وسلك طريق المقاومة في "كتائب القسام"، وكان يؤم المصلين بالصلاة؛ فصوته حسن.
تغلبها مشاعر الأمومة هنا: "استشهد بعمر العشرين، لكن كنت أنظر في وجهه وأشعر أنه بعمر الأربعين فكان رزينًا مستقيمًا يحبه الجميع".
ترك لها ذكرى كذلك قبل استشهاده بيومين: "قلت له: "إن شاء الله بفرح فيك"، فطلب أن يكون الشيء من تعبه: "لما أتزوج بدي أوفر المهر وعفش البيت لحالي"، وابتسم: (بدي أنقي عروستي لحالي إذا ربنا مد بعمري إلى 25 سنة)".
تعلق: "الحمد لله نقى ودفع كل شيء لحاله، الله يرضى عليه".