لم تنَم غزة ليلتها بعدما كشف برنامج "ما خفي أعظم" الذي تبثُّه قناة الجزيرة ويقدمها ابن المدينة البار بها الزميل تامر المسحال، عن واحدة من عجائب الزمان.
تفاصيل ومعلومات كثيرة قد لا يتسع لها هذا المقال، استعرضها التحقيق في غضون 52 دقيقة عزَّزت لدى الفلسطينيين المناعة من مضاعفات النكسة الجديدة التي تسببت بها اتفاقات التطبيع.
لكن ما كان منتهى الفخر لدى أهل غزة تحديدًا، والشيء الذي أشعرهم بالثأر ممن كان يومًا سببًا في نكبتهم، ما أظهرت لقطات ومشاهد من التحقيق من عثور وحدة الضفادع البشرية في كتائب القسام على مئات القذائف داخل بقايا سفينتين حربيتين بريطانيتين غارقتين في عمق البحر قبالة سواحل غزة، بعد أن أصابتهما طوربيدات غواصة ألمانية عام 1917 إبان الحرب العالمية الأولى.
وبعد مرور 100 سنة، استخرجت كتائب القسام القذائف البريطانية من قاع البحر، وأعاد سلاح الهندسة فيها تدويرها وإجراء التجارب عليها، فكانت النتيجة تدمير الهدف بالكامل، قبل أن تدخل هذه القذائف الخدمة في قصف (إسرائيل).
لن يكون سهلًا على العقل الأمني الإسرائيلي تصديق ذلك، فكيف يمكن للقذيفة التي تقصف المدن والبلدات الإسرائيلية المحتلة أن تكون صناعة بريطانية أو تحمل علم الدولة التي كانت سببًا في قيام "إسرائيل"؟!
لقد استطاعت حماس بطريقة ذكية أن تتسلّح من أعدائها، ثم تشير إليهم بأصابع الاتهام بوصفهم العناوين الأساسية وأصول الإجرام الحاصل بحق الشعب الفلسطيني.
توجد حكمة كبيرة من ذلك، أنه في غمرة الظلم قد يصعب معرفة أين ستتحقق العدالة ويبدأ الانتقام، لكنه أمر حاصل ولا مفرّ منه، ولو بعد 100 سنة.
وهو ما حاولت المقاومة الفلسطينية أن تثبته لدى الأمة العربية والإسلامية، بأنه بالإمكان منازلة هذا الاحتلال وتحدّيه وتكرار هزائمه، إذا ما امتلكت قرار ذلك.
جاء تحقيق الجزيرة في توقيت مهم جدًّا وذي دلالة كبيرة، فقد تزامن مع ذكرى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في 12 سبتمبر 2005، أي بعد 15 عامًا على انسحاب آخر جندي إسرائيلي من القطاع، وهي خطّة "فكّ الارتباط" التي استقال بسببها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من الحكومة عام 2005 احتجاجًا عليها، وقال حينها: "إن خطة فك الارتباط تمثل انتصارًا مهمًّا لحركة حماس ولفكرها، وبإمكان الفلسطينيين أن يعبّروا عن فرحتهم بهذا النصر الكبير، الذي لم يكن له مثيل في كل مواجهات دولة إسرائيل".
يجب أن نعيد تذكير نتنياهو بهذا الانتصار الذي مثّل تراجعًا للمشروع الإسرائيلي، وأن هذا التراجع، رغم التقدم الحالي الذي يجنيه عبر التطبيع، قابل للتكرار في وجود العوامل التي قادت إليه وهي المقاومة الفلسطينية.
كما جاء عرض التحقيق في اليوم الذي حلّت فيه الذكرى الـ27 لتوقيع اتفاق أوسلو في واشنطن 1993، وفي اليوم التالي من ذكرى الانسحاب الإسرائيلي من غزة، وقد يكون هذا الترتيب درسًا من التاريخ بأن الحقوق لا تُعطى لساكت ولا تجبلها اتفاقيات سلام، بل تنتزع وتسترد بالقوة، لكن ذلك لا يكون إلا بقيادة تمتلك هذه القناعة، وهذا درس آخر للمفاضلة بين نمطين من القيادة، نمط يؤمن بالحل السياسي فقط وآخر لا يعتبره كافيًا.
لذلك قال الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس رحمه الله ذات مرّة إنه "في ظل عدم توازن القوى لا يمكن للعمل السياسي أن يسير، وعندما تختل موازين الصراع لا بد من وجود العمل العسـكري الذي يضر بمصالح العدو ويجعله يركع". ولم يمرّ عام بعد استشـهاده في عام 2004، حتى احتفلت غزة بطرد آخر جندي إسرائيلي، في حين مرّت ٢٧ عامًا وفريق التسوية يقاوم بسحب السفير.
يكشف التحقيق أنه بعد 14 عاما من الحصار تصل المقاومة الفلسطينية إلى مستوى إطلاق 78 قذيفة في دقيقة واحدة. وهو رقم أكبر مما أعلن عنه رئيس حماس في قطاع غزة يحيى السنوار العام الماضي (51 صاروخا في الدقيقة)، أي أن الرشقة الصاروخية للمقاومة تزيد مع مرور الوقت ولا تتراجع في ظل الحصار والملاحقة الإسرائيلية لمصادر السلاح، بل أصبحت كل حدود الكيان مكشوفة وفي مرماها، وهذا يؤكد أن تهديد السنوار في وقت سابق لم يكن استعراضا حين توعّد "بقلب الطاولة على "إسرائيل" خلال دقيقة واحدة".
يصبح إذًا أنه لا جدوى لاستمرار هذا الحصار، لكن الاحتلال في الواقع لن يتراجع عن ذلك لأنه سيتبنّى سياسة تأخير تطوّر المقاومة؛ لأن توازن ردع أكثر يعني معارك بنتائج أكبر لصالح غزة.