على بعد 25 مترًا؛ جثمت دبابة "الميركافا" ترافقها مدرعة وجرافة أمام بيت سعيد الداعور، انطلاقًا من مستوطنة "دوغيت" في تشرين أول (أكتوبر) 2000م؛ ثلاث سنوات بقي هذا المشهد لا يتغير فيه سوى تبديل دوامات الجنود داخل الآليات العسكرية؛ ينام ويستيقظ على أصوات الرصاص "تدب قلوبهم"، كلما صعد أحد أفراد العائلة إلى سطح المنزل رافقه مدفع الدبابة مصوبًا نحو كل وجهة يوليها.
كثيرة هي المواقف التي عانى فيها وأسرته من الاحتلال، تجريفًا وتدميرًا وإرهابًا، في تشرين الأول آنذاك حينما اجتاحت دبابات الاحتلال شمال "بيت لاهيا"؛ وقبل أن تستقر بجوار بيته المكون من طابق واحد، جرفت أرضه المزروعة بالحمضيات، وأشجار النخيل، والزيتون، وكأن زلزالًا ضرب المنطقة، وأحدث كل هذا الخراب إلى أن استقرت بجوار بيته.
"في المدة التي جثمت فيها دبابة ميركافا والآليات المرافقة، على مسافة قريبة، كنا نشعر بخوف دائم ومستمر، حتى إن الزائر لنا يستغرب كيف نعيش بجوار دبابة؛ كلما خرجت زوجتي أو بناتي إلى السطح كان يرافقهم مدفع الدبابة" يفتح الداعور ذكرياته من أوجع فصولها، في حديث مع صحيفة "فلسطين"، وكأن المشهد مر عليه أيام وليس أكثر من 15 عامًا؛ الصوت القادم عبر الهاتف مليء بالحزن.
"زرعتها من عرق جبيني"
صوت الرجل الستيني هادئ؛ وكأنه يخرج من مذياع ونسق مثل شخص يقرأ عن ورقة أو شخص حفظ المشهد ورواه عشرات المرات، فبات سهلًا عليه روايته، لكن هنا كانت الدموع ترافق ذكريات تلك الأيام: "لا أدري أبشر هم أم لا، اقتلعوا أشجارًا مثمرة عمرها 40 عامًا، زرعتها من عرق جبيني!".
كان شباب المقاومة الفلسطينية يأتون المنطقة ويجدون هذا المشهد (دبابة بجوار بيت سكني)، فيستفزهم ويحدث القتال والاشتباك المتكرر؛ حيث كانت جرائم الاحتلال ترهب أطفال العائلة.
في إحدى المرات، وضع رجال المقاومة (كما يروي) عبوة للدبابة، إلا أن جنود الاحتلال اكتشفوا أمرها، يتوقف هنا بلهجة عامية هذه المرة: "بعد ما كشفوها، هجموا علي بيتي، وطلعونا ساعتين على جنب، حتى فككوا العبوة".
استمر الحال هكذا؛ إلى أن جاء اليوم الذي استطاعت فيه المقاومة تفجير عبوة أسفل الدبابة ردًّا على جرائم الاحتلال، المشهد لا يغادر ذاكرة الداعور: "قتل أربعة جنود، وتدمرت الدبابة".
التفاصيل مكدسة في زحام ذاكرته، حيث لا ينسى كيف استمرت جرائم جيش الاحتلال، حين اتجهت جرافتان إلى بيته: "بعد الاستيلاء عليه وإخراج أطفالي وزوجتي، وقد كنت خارجًا لأحد مراكز حقوق الإنسان لتقديم اعتراض لما تسمى محكمة الاحتلال العليا، لعدم هدم البيت بعدما هدموا مستودعًا (بركس) بقربه".
"كان الهدم في جو ماطر في شباط (فبراير) 2003م، أخرجوا أولادي، حتى إن زوجتي طلبت أن تخرج معطفًا للصلاة من البيت فرفض ضابط الاحتلال، وبدؤوا الهدم إلى أن جعلوه ركامًا" يتابع حديثه.
"لا تدرون كيف ومتى تكون نهاية الأشياء، أصعب ما في الحياة أن تصبح بلا بيت، وبلا سرير تأوي إليه، تنظر إلى وجوه زوجتك وأبنائك وأنت بلا مأوى، يضيفك أحد الأقارب" لم يكن بيته مجرد سقف وحجارة، بل ذكريات حملها منذ عشرات السنين: "ذكريات أشياء اقتنيتها على مدار حياتك، فقدتها وكأنك فقدت حياتك".
الليلة الأولى
في ليلته الأولى بلا بيت لم يزره النوم وهو يقف على حطام بيته: "ذهبت لأشتري في اليوم التالي بعض الملابس لأولادي، لأننا لم نخرج بأي شيء سوى ما كنا نلبسه (...) حزنت كثيرًا، لكن إرادة الحياة والبقاء للشعب الفلسطيني، فتحملت أنا وزوجتي وبناتي ثلاث سنوات حتى عدنا وبنينا بيتًا بعيدًا عن البيت المهدم حتى يبقى في الذاكرة".
"ذلك البيت المهدم لن أنساه، ومهما بنيت بيوتًا فلن تكون مثله" لا يبكي تلك الحجارة وجمال بستانها المليء بالورود بقدر ألمه على الذكريات.
أن يهدموا بيتك ويلقوك في الشارع هو عقاب "موجع"، لكن الاحتلال يصر على ممارسة "أبشع الجرائم" بحق الإنسان الفلسطيني، ورغم ذلك بقيت إرادة شعبنا لا تكسر، ولسان حاله يقول: "اقتلونا شردونا؛ لكن لن تهدوا فينا الإرادة".
حتى جاء اليوم الذي أثلج صدره: "اندحار الاحتلال مثل لي عيدًا وأسعد أيام حياتي، أجمل وأروع ما كنت أراه وهم يهدمون بالجرافات بيوت المستوطنين، أمام عيني، فتذكرت بيتي فقلت في نفسي: هدموا بيتي فهدموا بيوتهم بأيدهم، هدموها هربًا من غزة، هربوا من المنطقة التي كانوا يعدونها إستراتيجية؛ فمنطقتنا كانت مرتفعة".
يغافله مشهد دحر الاحتلال وابتسامة ترافق صوته، وهو أجمل المشاهد التي رآها في حياته: "ما زلت أذكر فرحة الناس وقد جاؤوا بالآلاف للمستوطنة فرحين ينشدون الأغاني الوطنية، والأهازيج معتزين بالمقاومة، يترحمون على الشهداء (...) لم يندحر الاحتلال بسهولة من غزة، بل عندما بدأت المقاومة تخرج له من تحت الأرض وتفجره، لم يجد "أرئيل شارون" (رئيس وزراء الاحتلال آنذاك) إلا أن يهرب من غزة لأن تكلفة البقاء فيها عالية لم يستطيعوا تحملها".