قبل أيام ظهر بنيامين نتنياهو وهو يجري مكالمة (فيديو) مع مواطن إماراتيّ يتحدث العبرية، ويقول: إنه تعلّمها (أون لاين)، كانت المكالمة مجرد تبادل تحيات تقليدية، لكن إخراجها بهذه الهيئة له أهداف عديدة، لا سيما أنها لم تكن بين نتنياهو وأحد المسؤولين الإماراتيين، بل مع شخص قيل إنه مواطن عادي، رغم أنه مرافق الوفد الإسرائيلي في الإمارات.
سبق هذه الحادثة مكالمات أخرى مع إعلاميين ومدوّنين (معظمهم سعوديون) خلال آخر عامين، والواضح أن الاحتفاء الإسرائيلي بها مفتعل ومصطنع، غير أن الهدف الكامن وراءها يستحق مثل هذا الابتهاج، أي هدف كسر الحواجز النفسية العالية بين الصهاينة والشعوب العربية، ومحاولة جعل التواصل بين الجانبين أمراً عادياً ومستساغًا، وكفيلاً بإظهار (الوجه الآخر) لكيان الاحتلال الذي بات عرّابو التطبيع يدّعون أنه حُجب عنهم بفعل الدعايات الفلسطينية المضللة على مدار عقود من الصراع مع الاحتلال!
يمكن القول: إن الأمر ذاته ينسحب على الاحتفاء الصهيوني بإعلان دول خليجية صغيرة مثل البحرين إبرام اتفاق سلام مع (إسرائيل)، فتطبيع الدول الصغيرة وهرولتها نحو توقيع الاتفاقات، ومرور الأمر مرور الكرام سيشجّع الدول الكبيرة على الإقدام على هذا الفعل دون حرج، بعد أن يصبح ظاهرة وحالة معتادة، وبعد اعتياد المزاج الشعبي على الأمر، وتتابع تطبيع الأنظمة الصغيرة والهامشية في تأثيرها ووزنها.
صحيح أن ضريبة كلمة الرفض أو حتى الاستنكار الخفيف باتت غالية في معظم الدول العربية الساعية للتطبيع، وخصوصاً في الإمارات والسعودية اللتين تفتكان بالصامتين عن مباركة سياساتها من مواطنيها ورموز الرأي فيها، وليس فقط بالمعارضين، حيث إن الإمارات مثلاً لا تكتفي باعتقال المعارضين من مواطنيها، بل تعاقبهم بالتهجير وسحب الجنسية منهم، ومع ذلك تبقى كل هذه الأنظمة محتاجة للتدرج في صدم الوعي الشعبي بالموبقات التي تقارفها، وقد كان هذا التدرج واضحاً في السياسة السعودية خلال السنوات الأخيرة، رغم أنه تدرّج متسارع، بدأت بإحداثه جيوش الذباب الإلكتروني على مواقع التواصل، وانتهى بأن يروج بعض أئمة الحرم المكي للتطبيع مع (اليهود) عبر طرحٍ فيه كثير من العوار الفكري والفقهي، ويسهل دحضه وردّه.
في كل الأحوال، ورغم كل هذا السواد الذي يلفّ الآفاق العربية، فإن الرهان الحقيقي يبقى على وعي الشعوب، وعلى بقائه مصاناً من التزييف، وما دام النبض الجمعي للأمة مفارقاً لسياسات الأنظمة فإن الأمل يبقى حاضراً بإمكانية التغيير ولو بعد حين، فلم تكن الأنظمة في أي يوم معبّرة عن تطلعات الأمة، لأنها أنظمة ستؤول إلى الزوال، ومثلما تشكلت براعم الربيع العربي في أحلك الظروف وأكثرها جمودا، فإن تكرار موجاتها –وإن بتجليات مختلفة- سيظلّ ممكنا.
ولهذا لا بد من الحذر من استعداء الشعوب في سياق الغضب من جرائم حكامها، ولا يصح التقليل من جدوى تضامنها مع فلسطين وقضايا الأمة العادلة، فهذا النفس الصادق الواعي هو ذخر أمتنا الحقيقي، وعليه يكون الرهان ليتحول إلى فعل مؤثر ومغيّر، رغم أن سقوف التعبير عن الرفض تنخفض باطّراد، فبعد أن كانت تترجمها المظاهرات وفعاليات الميدان، باتت تقتصر على الإدانة الكلامية، وهي إدانة قل أن تصدر عمّن يعيشون داخل بلدانهم، بل ينطق بها المنفيون عنها، ومع ذلك فهي تبقى شاهدة على أصالة الإحساس بقضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، والوعي بكنه جوهرها وأصل الصراع فيها، ورفض الانصياع للسياسات الشاذة التي تحاول كسر المحرّم، وتقبّل الدخيل.
حتى لو طبّعت كل الأنظمة فلا يمكن الخشية على وعي الشعوب فيها (في أكثره)، لأن هذه الأنظمة تهرول نحو موائد الصهاينة، وهي في أشد حالات العداء والنفور مع شعوبها، تسالم عدو الأمة التاريخي، وتخاصم شعوبها، وتوغل في قهرها وإخضاعها، ولأن الحق لا يمكن أن ينقلب باطلاً بقرار من صبيان الفساد والإفساد والاستبداد من حكام، ومن يدورون في فلكهم.
يبقى أن نلاحظ أن (إسرائيل) التي ما فتئت تفتخر بقوتها واستغنائها عن جميع الدول عسكرياً وتقنياً واقتصاديا، ما تزال ترى نفسها كياناً منبوذاً وسط المحيط العربي، ولهذا فهي تحاول طرق بوابة الشعوب دائماً واستهداف وعيها وإصابة القبول لديها، أو تلجأ لصناعة صورة إعلامية زائفة تبدو فيها بعض مظاهر قبولها شعبيا، حتى لو كانت الصورة متوهمة أو محدودة الأثر.