حتى 12 سبتمبر/ أيلول 2005، سيطرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على (100) كيلومتر مربع من أرض غزة. وبالعودة إلى خريطة التوزيع الجغرافي للمستوطنات التي طوقت القطاع من كل جانب يدرك المتابع أنها لم تأتِ عبثًا، وإنما جاءت مخططة لإحكام السيطرة اقتصاديًّا واجتماعيًّا ببسط النفوذ الاستيطاني على نحو ثلث مساحة الشريط الساحلي، البالغة (365) كيلومترًا مربعًا.
وشملت مناطق السيطرة الإسرائيلية عدة مساحات متداخلة بما فيها مساحة المستوطنات المسماة بالمناطق الصفراء (16) كيلومترًا مربعًا، والمناطق الأمنية (58) كيلومترًا مربعًا، والمواقع العسكرية (2.42) كيلومتر مربع. أما المناطق المجرفة لأغراض توسعية استيطانية فبلغت مساحتها (8.43) كيلومترات مربعة.
وبلغ عدد المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة (21) مستوطنة، يقطنها زهاء (8700) مستوطن، وفق بيانات مركز الإحصاء الإسرائيلي لعام 2004، في حين بلغ عدد سكان القطاع في حينه (1.8) مليون فلسطيني، بحسب معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وضمت الكتل الاستيطانية الشمالية مستوطنات "إيرز"، و"نيسانيت"، و"إيلي سيناي"، و"دوغيت"، وكانت المستوطنتان الأخيرتان تطبقان في شمال بيت لاهيا على منطقة "السيفا" التي سكنها ما يزيد على (30) عائلة فلسطينية عاشت ظروفًا أشبه بالسجن، إلى جانب ما تركه الاستيطان في المنطقة الشمالية من آثار مدمرة طالت جميع نواحي الحياة الفلسطينية، كمصادرة الأراضي الزراعية لأغراض التوسعة الاستيطانية وفرض وقائع جديدة على الأرض، وإقامة المستوطنات في الجزء الأفضل مائيًّا من الناحيتين الكمية والنوعية بشكل أسهم في استنزاف خزان غزة الجوفي، وفقًا لمعطيات نشرها معهد الأبحاث التطبيقية في القدس "أريج"، ويؤكده د. نعيم بارود، أستاذ الجغرافيا في الجامعة الإسلامية بغزة.
ويوضح أن المنطقة تتلقى حوالي (٤٥٠) ملم من الأمطار سنويًّا، وهي أكبر كمية تتلقاها منطقة في قطاع غزة، مشيرًا إلى أن منطقة الشمال تتبرع أيضًا على أفضل خزان جوفي مائي ساعد المستوطنات في استغلال المياه لأغراض الزراعة والاستجمام.
وفي جنوب مدينة غزة تموضعت مستوطنة "نيتساريم" لتفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، حيث سيطرت سلطات الاحتلال على طريق يوصل بين المستوطنة ومعبر "كارني"، ويجاور هذا الطريق أراضي حكومية تابعة لأرض المطار، وأخرى من الناحية الجنوبية والشمالية ملك "طابو" لمواطنين، وهي أراضي كانت مزروعة ببساتين البرتقال والزيتون. أما في المنطقة الوسطى من القطاع فجثمت مستوطنة "كفار داروم" على أرض المواطنين في دير البلح، وشكلت هذه المستوطنة هاجسًا للمواطنين والمزارعين الذين هدمت وجرفت مزارعهم من جراء انطلاق الآليات لتجريف أراضيهم ومنعهم من الوصول إليها.
المنطقة الأهم
في حين شكل تجمع "غوش قطيف" الاستيطاني الأكبر مساحة، والمنطقة الأهم من حيث الوظيفة الاقتصادية والأمنية، ليفصل التجمع من مفترق المطاحن امتدادًا من طريق "كيسوفيم" شمال القطاع عن وسطه وجنوبه بإحكام.
وقد عانى المواطنون في تلك المنطقة استفزازات المستوطنين واعتداءات جيش الاحتلال وعمليات الإذلال المقصودة على الطرقات، حيث عمل التجمع الذي ضم (12) مستوطنة على عزل المدن الفلسطينية عن بعضها (دير البلح، خانيونس، ورفح)، وطوقت هذه المستوطنات مدينة خانيونس من الشمال والغرب والجنوب لتعزلها عن دير البلح، بل عزلت (5) آلاف فلسطيني سكنوا في المنطقة المعروفة باسم "المواصي"، التي تمتد من جنوب دير البلح إلى جنوب رفح بما يزيد على (2) كيلومتر عرضًا و(14) كيلومترًا طولًا.
ويلفت بارود إلى أن لتلك المنطقة الساحلية أهمية كبيرة من عدة نواحٍ، "فقد أقيمت مستوطنات خانيونس ورفح فوق أراضي تسمى السوافي، وهي أيضًا مصائد مائية بإمكانها استيعاب كل قطرة ماء تسقط في المكان".
كما حملت المنطقة، تبعًا لبارود، بعدًا زراعيًّا تنمويًّا استغلها المستوطنون لإنشاء بساتين النخيل والمانجو ودفيئات زراعية يزرعون بها الزهور ومزروعات أخرى تصدر خارج فلسطين، مثلما كان الحال في مستوطنة "جني طال" أكبر المستوطنات الإسرائيلية مساحةً.
وقد أتاح الانسحاب للمواطنين الاستفادة من تلك المساحة الجغرافية في زيادة الإنتاج الزراعي محليًّا بنسبة (10%)، وكذلك التوسع العمراني خاصةً أن قطاع غزة يعد من أعلى مناطق العالم كثافة سكانية، وفقًا لمعطيات نشرتها وزارة الزراعة في 10 سبتمبر الجاري.
كما أن الكثبان الرملية التي تقع في هذه المنطقة تكتنز تحتها خزان مياه جوفية ضخمًا كان الاحتلال يسرق المياه منه ويضخها إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48م. كذلك مثلت الكثبان الصفراء الموجودة في المنطقة ثروة اقتصادية نهبت إسرائيليًّا، فإلى جانب أهميتها من الناحية الطبيعية واستخدامها في صناعة مواد البناء، تحتوي هذه الرمال على نسبة كبيرة من "الكوارتزيت" الذي يدخل في كثير من الصناعات كالزجاج والأدوات الكهربائية.
ويرى د. بارود أن سلطات الاحتلال سعت من خلال الطوق الاستيطاني الذي أحاط بقطاع غزة، لتأمين سهولة مراقبة الأنشطة المختلفة داخل التجمعات الفلسطينية، والتحكم في الحياة الاجتماعية، ومحاولة وقف وعرقلة الامتداد العمراني الفلسطيني وعدم الاستفادة من الأراضي الحكومية من قبل المواطنين الفلسطينيين، إضافة إلى الاستيلاء على موارد والمقدرات الفلسطينية مثل المياه والزراعة وغيرها.
الطرق الاستيطانية
ولتحقيق التحكم والسيطرة بحياة المواطنين الفلسطينيين أوجدت سلطات الاحتلال شبكة من الطرق الاستيطانية لتصل بين المستوطنات والأراضي المحتلة عام 48, إذ ربطت مستوطنات القطاع عبر طريقين رئيسين: الأول الساحلي غربًا، والذي يمتد من دير البلح حتى رفح، وهو امتداد لطريق الساحل الرئيس الذي يبدأ من الحدود الشمالية حتى دير البلح. والثاني طريق صلاح الدين شرقًا، الذي ربط بين الحزام الاستيطاني (ايرز-كفار داروم- موراج)، حيث جاءت مستوطنة "إيرز" لتشرف على المدخل الشمالي لقطاع غزة، فيما تموضعت "كفار داروم" لتفصل بين مدينتي خانيونس ودير البلح، و"موراج" للتحكم في الطريق الواصل بين رفح وخانيونس. وقد وظف الاحتلال هذه الطرق لتقسيم القطاع إلى ثلاثة أقسام وأحيانًا إلى أربعة أقسام مستخدمة المواقع الاستراتيجية لمستوطنات هذا الحزام.
ويقول د. بارود: "إن المتأمل والمتتبع للخريطة السياسية للمستوطنات التي كانت مقامة على أرض قطاع غزة يرى بوضوح كيف أن الاحتلال استخدم الجغرافيا السياسية بعناية فائقة لرسم المواقع الجغرافية للمستوطنات وفق دراسة متأنية، فتلك المستوطنات لم يعتبرها الاحتلال مناطق معزولة بل جزء من سلسلة مستوطنات منتشرة في كل أنحاء فلسطين، وهي جزء من مفهوم إسرائيل الكبرى الذي قوضته المقاومة بغزة".