بعد يومين من اتفاق تثبيت ؤ بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي الأسبوع الماضي، أخرج وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس من درج الإسعافات الأولية في مكتبه طلب مواصلة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، ورفعه إلى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينت" الذي صدَّق من فوره على الطلب يوم الأربعاء 2 أيلول/سبتمبر الجاري، في توقيت إسرائيلي مدروس بعناية.
يحتجز الاحتلال جثامين عشرات الشهداء الفلسطينيين ويرفض إعادتها لذويهم؛ بزعم أنهم قُتلوا خلال تنفيذ أو "محاولة تنفيذ" هجمات، ويحتفظ بها في ثلاجات ومقابر خاصة محاطة بالحجارة دون شواهد، ومثبَّت فوق كل قبر لوحة معدنية تحمل رقمًا معينًا؛ ولهذا سمِّيت "مقابر الأرقام"، لأنها تتخذ من الأرقام بديلًا لأسماء الشهداء.
هيئة البث الإسرائيلية قالت إن "الكابينت" صدَّق على طلب غانتس بعدم إعادة جثامين "حتى لو لم يكونوا منتمين لحركة حماس". كما لو كان غانتس يريد بعبارته الأخيرة لفت الانتباه إلى انتقامه بذلك من حماس، وكمظهر من مقتضيات الزعامة بحصر حربه مع خصم واحد.
ونقلت الهيئة عن غانتس قوله: "إن عدم إعادة الجثامين هو جزء من التزامنا الحفاظ على أمن مواطني إسرائيل، وبالطبع إعادة الأولاد إلى الوطن"، في إشارة إلى أسْر حماس في قطاع غزة 4 جنود إسرائيليين منذ عام 2014.
يعد هذا القرار امتدادًا لقرار سابق اتخذته المحكمة العليا الإسرائيلية، وهي أعلى هيئة قضائية في (إسرائيل)، قبل عام بالضبط، أي في 9 سبتمبر الماضي، ويعطي سلطات الاحتلال الضوء الأخضر لاستمرار احتجاز جثامين الفلسطينيين؛ ما يجعل (إسرائيل) الدولة الوحيدة في العالم التي تواصل تبنّي هذه السياسة وتفرض عقوبات على الجثث، في إصرار واضح ومستفزٍّ على تحدّي المجتمع الدولي، والضرْب بعرض الحائط لكل أعرافه.
لكن السرّ هو في توقيت القرار الجديد، فقد جاء للتغطية على إخفاق غانتس في إدارته للمعركة مع المقاومة، ومحاولة لتهدئة الجمهور الإسرائيلي وتجنب أسئلته وانتقاداته، وهو الذي صرّح لهم بتبجّح ورأس مرفوع قبل شهور قليلة، "أننا قد غيرنا المعادلة: فحكم البالون المنطلق من غزة كحكم الصاروخ"، في حين لم يجرؤ على خدش فتى فلسطيني واحد من مطلقي البالونات على حدود غزة.
كما ألحق غانتس قراره، بالترويج مطلع هذا الأسبوع لبناء حوالي 5 آلاف وحدة استيطانية في الضفة الغربية، ليظهر بمنتهى الوضوح أنه يحاول البحث عن انتصار وهمي، والوقوف على قدميه بعد هذا الإخفاق أو الهروب منه بالعبارة الأدق، والإبقاء على صورة الوزير القوي في مواجهة الأخطار، و"الرجل النظيف" سياسيًّا في بيئة قرار إسرائيلية غير متماسكة وخصوم متأهبين.
وليس تلك عادة غانتس خريج كلية القيادة في (إسرائيل)، بل هي أساليب هروب سبقه فيها جنرالات ووزراء إسرائيليون كانوا يبحثون دومًا عن نصر من نوع آخر، ويهربون من التفسير وتقديم الإجابات عن أسئلة الهزيمة.
لكن في حالة غانتس، يبدو أن خمسة شهور من العمل المشترك مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أكسبته القدرة على سرعة إفراز الحيل وقرارات النجدة، إلا أن ما يجب معرفته هو أن كثيرًا من قرارات هذين المحتاليْن، نتنياهو وغانتس، تتأثر بالمشكلة والمواقف المحرجة التي تضعهما فيها المقاومة الفلسطينية، وتضطر وزيرًا بحجم غانتس لفرد عضلاته على جثامين الشهداء.