مر اليوم "شاقًّا" بعد عمل مضنٍ؛ وما إن أوشكتْ أن ترتخي على وسادتها "لأخذ قسط من الراحة"، يفزعها صوت بكاء وصراخ قادم من إحدى غرف المرضى، يعلو النحيب رويدًا رويدًا، حملتها قدماها إلى حيث الصوت، حتى عثرت الممرضة دعاء الشاعر (24 عامًا) على مصدره، فوجدت أمامها سيدة أربعينية مصابة بفيروس كورونا باكية منهارة، حاولت بطرق شتى تهدئتها، إلى أن حررت كلماتها من شفتيها الراجفتين: "تركت أولادي في المنزل بمفردهم، لكن بعضٌ من الناس يتنمرون عليهم: (اطلعوا من الحارة، إمكم جابتلنا الكورونا)".
السيدة تروي، والممرضة لا تصدق ما تسمع، اجتاحها "غضب شديد وحزن على هذه الأم"، التي افترقت عن أبنائها كي لا تصيبهم بالعدوى، فتقابل بـ"أفعال جارحة"، بكى قلب الممرضة، بكت "بلا دموع" ظاهرة حتى لا تزيد أوجاع السيدة.
"خالتو، اتصلي بالشرطة حتى تحمي أبناءك" وجدت الممرضة الحل، الذي أصغت إليه السيدة، إذ إنها بعد ساعتين أبلغتها أن الأمن قد حل المشكلة، وأن أولادها بخير سالمين دون أذى، ما أسرَّ قلب الممرضة، وأشعرها بنوع من الراحة.
انقلبت المزحة إلى "حقيقة"
ليلة الخميس 27 آب (أغسطس) 2020م، تمازح دعاء أمها بعدما اطلعت على أسماء زميلاتها في (المجموعة الأولى) اللواتي استدعين للعمل في "المشفى الأوروبي" مع مرضى جائحة "كورونا"، وأن اسمها لم يكن من ضمنها: "تخيلي يا إمي يرنوا عليا بكرة، يستدعوني للحجر"، لترد الأم وكأنه حدس داخلي: "تخيلي يا إمي يجي أخوكي يوسف (العائد من السفر بعد قضائه عامًا خارج البلاد) وياخدوك إنت".
وبالفعل هذا ما حدث؛ مكالمة هاتفية، وردت من مشرف التمريض لاستدعائها للعمل ضمن صفوف المجموعة الأولى في هذه "الحرب"، سبقت قدوم شقيقها.
ما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى وجدت أمها تستمع للمكالمة على عتبات باب غرفتها؛ نظرت إليها والخوف يرسم طريقه في وجهها: "إيش يما بدهم ياخدوك؟!، لا اعتذري، ولّا أقلك استقيلي بدناش الوظيفة"، عانقت دعاء والدتها مقدرة خوفها: "إذا أنا اعتذرت وغيري اعتذر مين بدو يشيل الحمل ويحارب عشان كلنا نعيش ونسلم؟!"، انهمرت دموعهما معًا.
تناولت طعامها الأخير لتودع الأم "آخر العنقود"، بعدما جهزت أغراضًا تكفيها شهرًا وليس أربعة عشر يومًا، لم ينطق أي منهما بكلمة، ارتدت ثيابها، واتصلت بمشرف التمريض تخبره بأنها باتت جاهزة، فأرسل لها سيارة إسعاف لنقلها إلى أرض معركتها القادمة (مستشفى غزة الأوروبي).
"جاءت سيارة الإسعاف لتقلني وهممت بتوديع والدي وأخي، أما والدتي فلم تعانقني بذراعيها، فحسب بل بدموعها، ولكنني حبست دموعي لأهون عليها في تلك اللحظة وقبلت يديها وقلت لها ممازحة: "تزعليش يا إمي بنتك هلقيت بطلة وطنية حيحكي عنها التاريخ" -تعيش المشهد مرة أخرى وهي تروي لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف- "ضمتني أمي وقلبي يعتصر ألمًا، وكأنني طفلة لا تتجاوز العامين وقد أبعدوها عن حضن أمها".
المشهد الأول
لا يفارقها المشهد الأول لما وطئت قدماها أرض المشفى، وكأنه مشفى آخر، تولدت بداخلها رهبة وإحساس غريب: "وصلت للمشفى وتوجهت للسكن مع زميلاتي، وبعد ساعتين جاءني اتصال يخبرني أنه حان موعد مناوبتي، وغيرت ملابسي، كما دربت من قبل خلال المناورات التي قمنا بها داخل المشفى سابقًا".
"لما وصلت إلى المشفى كنت كلما اقتربت من القسم حيث يوجد المرضى شعرت بضربات قلبي تزداد شيئًا فشيئًا، والتوتر يثاقل خطواتي، حتى قابلت زميلتي، فسلمت (الشفت) إلي، فانهللت عليها بكل الأسئلة التي تشغل خلدي كما الجميع: "كيف وضع المرضى؟، كيف تعاملت معهم؟، ما مهامنا؟، كيف تحملت البقاء داخل هذا الزي الفضائي على حد وصف الجميع مدة عشر ساعات؟!"، كان عليها تخطي "اللحظة الأصعب".
هدأت زميلتها من روعها حين أخبرتها أن غالبية المرضى لا تظهر عليهم حتى أعراض الفيروس، وأنهم بخير ومتعاونون مع أفراد الطاقم الطبي، وأن مهامهن تتلخص في متابعة العلامات الحيوية للمرضى، وإبلاغ الطبيب في حال كان أحد المرضى يعاني أيًّا منها كصعوبة في التنفس، أو السعال ...، والأهم هو المحافظة على سلامة المرضى وأمنهم، وسلامتهن وسلامة زملائهن، لا شك".
وبدأت عملها قبل عشرة أيام الذي أصبح الآن روتينيًّا "في خدمة المرضى ومتابعة علاماتهم الحيوية وشكواهم والسؤال عما ينقصهم من مستلزمات، طبية كالكمامات أو شخصية كأدوات النظافة الشخصية، أو الطعام أو الماء، لتوفيرها لضمان سلامتهم وراحتهم، خلال إقامتهم في المستشفى.
تحسن حالة المرضى هو التطور الطبيعي في حالة الإصابة بالفيروس، "لأن العدوى تتلاشى من تلقاء نفسها في مدة أسبوع إلى أسبوعين، فيصل المريض بعد تشخيصه لديه أعراض كارتفاع درجة الحرارة، وألم في الجسم والسعال، فيكون العلاج "symptomatic"؛ أما بعض المصابين -وهم مرضى من قبل كورونا- فيحتاجون لرعاية أكبر، مثل مرضى القلب والسكر وارتفاع الضغط.
مشاهد عدة
مواقف كثيرة عاشتها تلك الممرضة لا تفارقها: "انهارت إحدى المريضات حين أحضرت إلى القسم وقد حكمت على نفسها بالموت عند سماع نتيجة فحصها الإيجابية، فما كان مني سوى أن اتخذت كل الاحتياطات وتوجهت إليها، وقمت بشرح تفصيلي عن الفيروس وأعراضه وتأثيره على جسد المصاب".
"أنت شابة وصحتك جيدة تخلو من أي أمراض تتعلق بالجهاز المناعي" تحاول الممرضة تهدئتها وكأنها مختصة نفسية، وتضيف لها: "الأنفلونزا ستكون أشد وقعًا عليك، أنت هنا في احتراز وقائي لمتابعة صحتك فقط، أولًا، ولضمان عدم مخالطتك آخرين حتى لا تنتشر العدوى".
كان شرط المريضة غريبًا هنا: "أقسمي بالله أن ما قلته صحيح ومثبت علميًّا، وأني بخير وسأعيش!"، كتمت الممرضة تأثرها، وابتسمت لها وأقسمت.
"مصابة أخرى كانت قد رفضت التجاوب مع أي من الزملاء الممرضين، أو تناول علاجها أو الطعام، لكون ابنتها المصابة أيضًا قد قدمت للمشفى، ولكنها لا تعلم في أي قسم وضعت، وعدتها أنني سأبذل كل مجهودي للاستعلام عن ابنتها وإحضارها حتى تكون برفقتها، وبالفعل قمت بعدة اتصالات مع الزملاء والمشرفين حتى وصلت إلى ابنتها".
كانت النهاية سعيدة على قلب الأم: "نقلت لتكون بجانب والدتها التي ما كان منها سوى أن أغدقتني بالدعوات الجميلة والاستجابة لكل تعليماتي بشأن الالتزام بالعلاج وتناول الطعام"، وهكذا جمعت دعاء شمل الأم بابنتها.
أشرقت شمس اليوم العاشر على الممرضة دعاء بإحساس غريب يمر على قلبها: "تعتريني مشاعر جمة، بعدما صرت مسؤولة عن رعاية نفسي التي أعفياني منها والداي، لكنها مشاعر تتبدل حينما أرتدي الملابس "الطبية الواقية" (...) وما إن أقبل على المشفى فأراه فارغًا ساكنًا شاحبًا حتى أسترجع ذكرياتي فيه حين كان يضج بالحياة، والأشخاص والضحكات التي غلبت الآلام فيه، فيعتصر قلبي ألمًا".
"والدتي إحدى محاربات سرطان الثدي منذ عام 2015م، ودرست التمريض لأجل ذلك، والفيروس أشد فتكًا بمن هم مناعتهم ضعيفة، مثل مرضى الأورام" -تخرج ما يعتري قلبها من خوف- "بمجيئي هنا لم أضع روحي فقط في خطر، بل عرضت حياة أهم شخص في حياتي للخطر، ما يزيد توتري وحذري في تأدية عملي إلى أقصى درجة".