لم تكن فكرة الاندحار الإسرائيلي عن قطاع غزة صيف عام 2005 تراود ذهن الحاج محمد مرزوق زعرب "حتى في الأحلام"، كما يقول.
فبحكم معيشته في منطقة المواصي المحاذية للمستوطنات التي كانت جاثمة على الأراضي الغربية من خان يونس، كان يرى حجم البنيان المحصن والتعزيزات العسكرية الموجودة بالمنطقة والاستغلال الإسرائيلي الكبير لتلك الأراضي الخصبة "حتى ظن يومًا أنهم لن يرحلوا عنها أبدًا مهما حدث"، يضيف "أبو غسان" لصحيفة "فلسطين".
ويسترجع أبو غسان البالغ (67 عامًا) قصصًا من معاناته اليومية التي كانت تلازمه آنذاك، من جراء إجراءات جيش الاحتلال قبل اندحاره من قطاع غزة قبل 15 عامًا.
ويقول: "كانوا متمسكين بخيرات تلك المناطق بشكل كبير ويزرعونها بالمحاصيل على مد البصر وكانوا يستقدمون الفلسطينيين للعمل في فلاحتها. كنت أعمل سائقًا أوصل العمال من شمال القطاع لمستوطنات الجنوب".
ويضيف: "كانوا ينفذون إجراءات أمنية مشددة ضد الفلسطينيين ويعرضوننا للتفتيش على عدة حواجز خلال الطريق ذاتها وفي نفس الرحلة"، متابعًا: "كنا كسكان للمواصي نعاني معاناة كبيرة من تضييقهم علينا سبل العيش لدفعنا للخروج من المنطقة ليصادروها ويضموها لمستوطناتهم".
ويشير إلى أن الاحتلال فصل بين سكان "المواصي" وأقرانهم من سكان معسكر خان يونس بحاجز أمني أطلق عليه شعبيًّا "حاجز التفاح" حيث كانوا يتعرضون للتفتيش المهين عليه في أثناء خروجهم ودخولهم للمنطقة، ولمزاجية ضباط وجنود الاحتلال الذين قد يحرمون الشخص من العودة لمنزله لعدة أيام، "وكم حرموا نساءً من العودة لبيوتهن بالأسابيع!".
وازداد التضييق من اعتقالات وإطلاق نار بعد اندلاع "انتفاضة الأقصى" عام 2000م حيث شدد الاحتلال الخناق على سكان المواصي، ويقول "زعرب": "أمتلك 16 دونمًا في المواصي في حين منزلي يقع في معسكر خان يونس، وقتها ولأنني أسير محرر في الثمانينات خيروني بين البقاء في أرضي أو العودة لمنزلي مع عدم التنقل بينهما بتاتًا فاخترت البقاء في أرضي ومكثتً فيها لمدة خمس سنوات متواصلة وحيدًا أقوم بفلاحتها قدر المستطاع حتى لا يقوموا بمصادرتها".
ويتابع: "كنت سجينًا في أرضي وتحررتُ عندما تحرر القطاع وانسحبوا منه حتى أنهم رفضوا السماح لي بالذهاب لوداع والدتي التي كانت تحتضر قبيل أيام من انسحابهم وقالوا لي لن تصل إلى بيتك إلا بخروج آخر شخص منا من المنطقة".
وفي 12 أيلول/ سبتمبر من عام 2000، اندحرت قوات الاحتلال من 21 مستوطنة كانت تشكل نحو 35% من مساحة قطاع غزة الذي لا تتعدى مساحته 360 كيلو مترًا مربعًا، بعد ضغط المقاومة خاصة ما عُرفت بـ"حرب الأنفاق" التي استهدفت خلال السنتين اللتين سبقتا الاندحار مواقع حصينة لجيش الاحتلال في القطاع.
ويشير زعرب إلى أنه كان يحتمي وراء جدار في أرضه ليشاهد حركة غير مسبوقة في المستوطنات تمثلت في انسحاب المستوطنين منها وقيامهم بتكسير بيوتهم وتجريف أراضيهم، في حين بدأت قوات الاحتلال تنسحب تدريجيًا ليتم الاندحار الكامل في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر 2005م ويعود الحاج محمد إلى بيته ويصبح حر التنقل بين أرضه وبيته.
ويقول: "ما حدث كان حلمًا لكنه لم يكن ليحدث لولا صمود الناس في أراضيهم المحاذية للمستوطنات رغم كل ما تعرضوا له من تنغيص للعيش وضربات المقاومة التي هزت جيش الاحتلال ودفعته للخروج من غزة في انسحاب تاريخي كبير".