فلسطين أون لاين

كورونا والعناية المركزة .. ١٤٤ ساعة يروي تفاصيلها الطبيب شبير

...
غزة - هدى الدلو

كان يعلم أن اسمه من ضمن قائمة الأطباء الذين سيأتي عليهم الدور للعمل في مستشفى العزل، وقد جهز نفسه وحقيبته بمقتنياته الشخصية وملابسه الشتوية التي سيحملها عندما يأتيه الاتصال ليخبره بأنه قد حان دوره لأداء واجبه الديني قبل أن يكون المهني، ومع أن الجهود المبذولة من الجهات المختصة بغزة في التصدي لفيروس كورونا أخرت ذلك، كان قدر الله نافذًا بظهور حالات إصابة بمرض كوفيد 19 من خارج مراكز الحجر الصحي لتنقلب الموازين.

في صبيحة 26 آب (أغسطس) من العام الجاري أتى الموعد، رن هاتف د. خالد شبير الذي يعمل طبيبًا عامًّا في العناية المركزة بمستشفى غزة الأوروبي في مدينة خان يونس، ليخبره "أنت مطلوب وانذكر اسمك"، فقاطعه: "من أجل ماذا مطلوب؟"، فجاءه الرد الذي كان يتوقعه: "أنت مطلوب عشان تشتغل في قسم العناية المركزة لمرضى كورونا".

"كنت متوقعًا استدعائي، ولكن ليس في هذا التوقيت تحديدًا، إذ إن والدي أجرى ثلاث عمليات، ويحتاج إلي بجانبه، خاصة أن إحداها يحتاج لغيار يومًا بعد الآخر، فكان شرط الموافقة فرز طبيب للغيار على جرح والدي، فكما علمني الطب لكي أخدم أبناء شعبي يجب أن يحصل على الخدمة من فلذة كبده" يقول د. شبير.

هم وزوجته "سمر" بإعداد حقيبته الشخصية، يضيف: "ولم أكد أنتهي من إعدادها حتى عاد هاتفي يدق مرة أخرى، ومن العجب أن لحن الهاتف هو أغنية "حب الحياة مع طفلي"، رددت على هاتفي وأخبرني رئيس قسمي للعناية المركزة والتخدير بأن الإدارة قد تعهدت بالتعاون معه بتوفير طبيب أو ممرض لعمل غيار طبي لوالدي".

في اليوم الذي سينتقل فيه للواجب الجهادي ودع عائلته وطفليه: "وليد" في الصف السادس الابتدائي، وعماد في الصف الثاني الابتدائي، الذي لم يقتنع بفكرة غياب والده عنه فذرف دموعه خوفًا وشوقًا لوالده، ويبكي وهو يقول: "بابا بده يروح يمسك كورونا"، فلم يهن على قلب والدهما الذي عكف محاولًا إقناعهما بطبيعة المرض، ولم يتركهما إلا بعدما رأى الابتسامة على وجهيهما.

جاءت سيارة النقل لتصحبه إلى مستشفى العزل الخاص بمرضى كورونا، وهنا دقت ساعة الحقيقة، يتابع د. شبير: "وأنا في سيارة النقل كنت أراقب الطريق المؤدي إلى المستشفى وهو خالي من المشاة والمركبات، فقط حواجز شرطية لمنع الحركة وللحد من انتشار الجائحة التي ألمت بوطننا، وأخذ شريط الذاكرة لدي يراجع عملي في قسم العناية المركزة في مجمع ناصر ثم في مستشفى الأوروبي".

وصل إلى المستشفى وفي الحقيقة كان متبلد الإحساس، "أو يوجد إحساس لكن ليس له وصف لما يجول بداخلي من عواصف نفسية" يتحدث عن شعوره بالغربة في مكان عمل فيه منذ سنوات، وكأن قدميه وطئتا موطأ غريبًا.

تحرك د. شبير في اتجاه مقر العناية المركزة لمرضى كورونا، وعند وصوله إليه وجد سيارة الإسعاف أمام المبنى والمريض داخل سيارة الإسعاف، ولا يعلم عنه أي تفاصيل، دخل إلى القسم وكان يوجد رئيس القسم ولفيف من مديري المستشفى ورؤساء الأقسام ومسئول قسم العدوى في الأوروبي يوجهونه وزملاءه.

ويتابع: "ذهبنا للبس الملابس الطبية المخصصة لمواجهة هذه الآفة، تجهزنا ولبسنا عدتنا كاملة ونطقت بالشهادتين وكنت متوضئًا، وأنزلت الحالة أنا وزميلي الممرض، وبدأت أدبيات مهنتي الطبية بسؤال المريضة عن اسمها الذي أعلمه وعن أمراضها الأخرى؛ فقد تتمكن من مساعدتي في علاجها من مرضها الذي ألم بها، وإن كنت لا أعلم كيف وأين نهاية رحلتها".

ويكمل د. شبير: "فإنها وصلت للعناية المركزة التي ينظر إليها أطباء التخصصات الأخرى أنها بوابة الآخرة، فما بالك بعناية مركزة لمرضى الكوفيد؟!، وعلمت أنها كانت مخالطة، فطلبت مني عدم إدخال أحد عليها، فبكيت بحرقة، لأنه كان من مطالبنا للناس ألا يخالطوا ويتخذوا أقصى درجات الوقاية، ولا فائدة، وكأنه لا حياة لمن تنادي".

تمالك نفسه وجهز عدة التخدير لتنويم المريضة، على جهاز التنفس الصناعي، وقام ببقية الإجراءات، وبالفعل عندما اقترب من المريضة مسافة لا تتجاوز 30 سم، نطق بالشهادتين مرة أخرى، ولكن هذه المرة عنه وعن المريضة، وقرأ سورة الانشراح في قلبه بسرعة عالية، لينشرح صدره.

دخل العناية المركزة وكأنه حكم على نفسه في مكان سيحتاج منه لمجهود ذهني وعصبي أكثر منه بدنيًّا، وعمل برفقة الطاقم الذي معه ممرضين وعامل نظافة بكل ما أوتوا من قوة للحفاظ على نفس المريضة الذي يمكن أن يبقيها على قيد الحياة، مع تحسن نفسها تحسن نفسه ونفسيته.

ستة أيام بمئة وأربع وأربعين ساعة لم تتنح الكمامة الطبية عن وجوههم، ولم يروا نور الشمس، فقط شعروا بحرارتها المرتفعة من كثرة البدل الوقائية التي ينام بعضهم بها ويتصبب العرق منهم، وعيونهم جافاها النوم طيلة تلك المدة إلا ساعات معدودة، يجتاحها كوابيس بأن المخدر قد انتهى عن المريض ويحتاج إلى آخر.

جاءه اتصال من الخارج ليخبره بوجود مريض آخر بحاجة إلى عناية مكثفة وهو مصاب كورونا إلى جانب أمراض أخرى، لم يستطيعوا إنقاذه؛ فقد انهارت لديه الوظائف الحيوية وانهارت معهم نفسياتهم، ففارق الحياة وبقي أمامهم مدة أربع ساعات لتجهيز برتوكولات نقل ميت كورونا، يقول: "كل مدة كنت أذهب أتفقده، لعل الروح عادت إليه من جديد، لكن لا أمل".

ويكمل د. شبير حديثه: "جاء مختص لتكفينه وتعقيمه من أجل نقله ودفنه، إذ إنه لم يغسل كباقي المسلمين، فرش عليه الكلور، هنا لم أستطع استيعاب الموضوع، وقررت أن أنهي مدة عملي في العناية".

كان يقضي الساعات القليلة التي يجلس فيها بعدما ينتهي عمله مع المريض، يهدئ نفسه بقراءة القرآن، وأداء صلاة الجماعة مع الفريق الطبي، والحديث مع أبنائه عبر تقنية الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو الكتابة على الحاسوب المحمول لتفريغ غضبه وتوتره.

شبير عاش الحروب العدوانية التي توالت على غزة، ومر عليه حالات وإصابات كثيرة، ولكنها لا ليس كمرضى كورونا، فهو عدو غير معروف، "كالطابور الخامس الذي يطعن بالظهر"؛ وفقًا لوصفه.