لا يمكن اعتبار أن المنطق السياسي والتاريخي الذي يتحكَّم اليوم في العلاقات الجارية على قَدَم وساق بين "إسرائيل" وبلدان عربية عديدة، بصورة مباشرة أو بتوسُّط الداعم الرسمي للكيان الصهيوني، الولايات المتحدة الأميركية، مماثل لما تم خلال عقود القرن الماضي. وإذا كان مؤكدا أن موجة التطبيع المُعلن، أو المُقَنَّع، سواء التي حصلت بالأمس أو التي تحصل اليوم، تلتقيان في مبدأ التخلي عن إسناد المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري ودعمه، مقابل منح الكيان الصهيوني ما يسمح له بمزيدٍ من التطاوُل على ما تَبقَّى من الأرض والعمل على ضَمِّها. يحصل ما ذكرنا برعاية وإشراف الولايات المتحدة الأميركية التي ترى في الوجود الإسرائيلي في قلب المشرق العربي من الوسائل التي تسعفها بمزبد من تفتيت البلدان العربية واستغلال ثرواتها المادية والرمزية.. حيث يُعايِن العالم أجمع في العمليات العدوانية المتواصلة استيطانَ وطنٍ وتحويل أهله إلى لاجئين وشتات.
واجهت الشعوب العربية موجات التطبيع الأولى، كما واجهت مكاتب التطبيع الناشئة في أكثر من قطر عربي، ومن دون الحديث عن بعض أنماط التطبيع الأخرى القائمة والمسكوت عنها. واجه الشارع العربي مختلف صور الموجة الأولى بالمظاهرات الغاضبة وإحراق الأعلام، وتَمَّ التنديد في تنظيمات المجتمع المدني بخطوات التطبيع والمطبّعين، كما تَمَّ التنديد بالغطرسة الصهيونية وبالمستوطنات التي ما زال الكيان الصهيوني لا يتردد في إقامتها في ما تَبَقَّى من الأرض الفلسطينية. ولا يتردد بعد ذلك، في إعلان ضَمِّها إلى الأراضي المحتلة. وظلت أنظمة سياسية عربية كثيرة ترعى الحقوق العادلة للقضية، وتدفع المجتمع الدولي إلى اتخاذ الإجراءات التي تساعد على بناء سلام عادل في فلسطين.
ترتبط الموجة الجديدة التي انتقلت من التطبيع إلى التحالف، في زمن الصراعات المشتعلة في المشرق العربي، زمن الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بجانب صور الحجر الصحي المرتبط اليوم بوباء كورونا وتداعياته، ترتبط موجة التحالف، في صيغته الجديدة، مَمْهُورَةً بالأحلام المتطلعة إلى مزيد من تفتيت اليمن وليبيا وسورية، ومن أجل الوقوف في وجه القوى الإقليمية، وصناعة أمجاد وهمية على حساب كل الانهيارات العربية .. تأتي لتتوّج مساراً طويلاً ومعقَّداً من التحوُّل الحاصل في موضوع المشروع الوطني الفلسطيني، والملابسات التي صاحبت توقيف إجراءات مسلسل السلام كما رسمته اتفاقية أوسلو.
أصبحت القضية بعد أزيد من ربع قرن على الاتفاقية المذكورة، وأربعة عقود على البدايات المُعْلَنَة لمشروع السلام العربي الإسرائيلي في "كامب دﻳﭭﻳﺩ"، أمام أمر واضح، توسيع مشروع توطين الكيان الصهيوني فلسطين، وبداية إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني. لقد أصبحنا أمام إجراءات الحكم الذاتي الانتقالي، وهي إجراءاتٌ يؤطّرها تدبير سياسي يُعْنَى بمنطق أقل الخسائر. ويمكن أن نضيف إلى ذلك صور الانقسام الفلسطيني المتواصل على حساب المشروع التحرّري الفلسطيني.
يمكن أن نفكر في التحالف الإسرائيلي الإماراتي في سياق مآلات القضية الفلسطينية، فقد طبعت الإمارات مع "إسرائيل" منذ زمان، مثل دول عربية أخرى. أما ما حصل قبل أيام برعاية أميركية، فيمكن إدراجه ضمن مشروع سياسي محدَّد، مشروع يتجه إلى تغييب المشروع الوطني الفلسطيني، وتعزيز نوعية الحضور الإسرائيلي في الخليج وفي المشرق العربي. ما يواجه الخطوة الإماراتية ويمنحها السياق والهدف هو مشروع صفقة القرن، والذي لا يمكن فهم مختلف أبعاده من دون ربطه بمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يجري العمل على إحيائه، في وقت تعرف فيه المجتمعات العربية كثيراً من الاندحار والتراجع.
بمتابعتك الآراء والتحليلات المهتمة برصد دلالة ما يجري على القضية الفلسطينية، سواء المواقف الإسرائيلية أو المواقف الأميركية والعربية، يتبين لك أن الرجّة التي حصلت، والسياقات السياسية العامة التي تؤطرها، دفعت كثيرين من أصحاب الرأي إلى الحديث عن نهاية المشروع الوطني الفلسطيني، ذلك أن ما يرافق مشروع صفقة القرن من ملابسات حوَّلت العرب إلى مجموعة من الأنظمة المنخرطة في حروب بالوكالة، أنظمة بلا ذاكرة وبلا قيم ومبادئ، أنظمة تابعةٍ مع قليل أو كثير من البلاهة السياسية..
ساهم كل ما ذكر أعلاه في دفع بعض الآراء إلى الشعور بأن مأزق القضية اليوم خانق، لا خيارات قادرة على وضع القضية الفلسطينية في الطريق المناسب، لتخطّي أشواك اللحظة الجارية وأسلاكها وفتح آفاق جديدة للعمل، أي استعادة المبادرة وإشعار الأقربين قبل بقية العالم بأن فلسطين عربية، وأن اغتصابها واستيطانها من المجموعات الصهيونية القادمة من الشرق والغرب خلال عقود القرن الماضي، وبمواثيق وعهود تُعَدُّ اليوم من تركة الحرب العالمية الأولى.
لن ينجح ما كنا بصدد رصد بعض معطياته في اجتثاث شعبٍ واجه منذ ما يقرب من مائة سنة مجموعة من المؤامرات والدسائس والحروب والانتهاكات، من السجون والضحايا. وهو قادر على استعادة أنفاسه ورفع أصواته في أشكال جديدة من الانتفاض الذي يُبلغ العالم أجمع بأن فلسطين أكبر من كل ما رُتِّب ويرتب لها من الصفقات والأحلام التي لا تجد أي حرج في أن ترى أن "إسرائيل" موكولة لها، حسب وصايا شمعون بيريز، إعادة بناء شرق أوسط جديد بأموال العرب و"عقول الصهاينة"، وفي هذا كثير من أحلام الأساطير الصهيونية.
لا نتصوَّر اليوم وجود مخرجٍ من متاهات الضفة الغربية وقطاع غزة، ومشروع تدابير وإجراءات الحكم الذاتي والأمن الإسرائيلي، إلا بإعادة النظر في مسارات اتفاق أوسلو.. نقطة الانطلاق الجديدة الكاشفة والمؤسسة، وهي منطلقٌ جديد يبدأ بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها الوطني التحرّري، ونحن نرفعه تقديراً لمختلف أرصدة هذه الحركة، بمختلف تياراتها وخياراتها ومختلف أجيالها وتضحياتها، وذلك من أجل مناهضة كل أشكال القصور والتقصير، ومختلف الأخطاء التي ارتكبت في مساراتها خلال العقود الأربعة الماضية، حيث يمكننا أن نواصل القول والعمل، لا تنازل عن أولويات المشروع الوطني الفلسطيني المتمثلة في دولة مستقلة عاصمتها القدس، لا تنازل عن عودة اللاجئين وإيقاف مسلسلات الاستيطان، ومختلف السياسات الاستعمارية التي تمارسها "إسرائيل"، فهل نحن على ذلك قادرون؟