في دولة الإمارات العربية المتحدة يستقبل نتنياهو على أنه رجل السلام لإشهار وتسجيل الزواج رسميا بعد سنوات من العرفية بما يسمى باتفاق "ابراهام"، فيمكن تفسير ذلك بفهم الطبيعة الإسرائيلية الاحتلالية، وللمعرفة أكثر (تل أبيب) لا تقدم أي خدمات مجانية، ومن هنا فإن الإعلان عن الاتفاق بتقديري جاء بطلب إسرائيلي حيث تريد (تل أبيب) مكافأة عن جملة الخدمات التي قدمتها للإمارات خلال السنوات الماضية، من تقديم تقنيات اتصالات، وأنظمة اختراق وتنصت، وترويج ودفاع عن رواية الإمارات في واشنطن، (إسرائيل) باختصار تريد مقابل تلك الخدمات كلها تطبيعا وعلاقات علنية لتقول إنها نجحت في اختراق المنطقة العربية، ولكي يستعمل نتنياهو المأزوم هذه الورقة في الانتخابات، كما أن عين (تل أبيب) على الخليج، لنهب خيراته وثرواته تحت مسمى التبادل التجاري.
لقد تم اشهار العلاقة الخفية لسنوات طويلة بين الجانبين بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الثالث عشر من أغسطس الماضي توصل دولة الإمارات العربية المتحدة والكيان الاسرائيلي لاتفاق شامل لتطبيع علاقاتهما، تتكشف بوضوح أسباب حملة التشويه التي شنها على مدار الشهور والسنوات الماضية ما يعرف ب" الذباب الإلكتروني" ضد الفلسطينيين جنبا إلى جنب مع تصعيد سياسي إماراتي ضد السلطة الفلسطينية ومن قبلها حركة حماس، إذ باتت أسباب الحملة واضحة الآن عقب هذا الإعلان، تلك الحملة كانت ممنهجة للتمهيد والتبرير لهذا الاتفاق، بمعنى تشويه الفلسطيني وإظهاره بأنه باع قضيته وأنه شخص سيئ، وأن القيادة السياسية للشعب الفلسطيني هي التي أضاعت فرص السلام، وأنها فاسدة، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني إرهاب، كل ذلك من أجل الوصول إلى هذه اللحظة " اللاتاريخية" على العكس تماما مما تحاول بعض أجهزة الإعلام توصيف الاتفاق بأنه "لحظة تاريخية".
نتنياهو الذي يعتبر هذا الاتفاق تاريخيا لتحقيق مصالحه الشخصية اولا قبل اي اعتبارات اخرى بالهروب الى الامام نتنياهو يعتبر هذا الاتفاق المنقذ الوحيد لمستقبله السياسي والشخصي على حد سواء، حيث لا يزال يعاني من أزماته الداخلية بعد ثلاث جولات انتخابية لم تسفر عن تشكيل الحكومة. وبعد فشله في تنفيذ مخطط الضم حتى الآن بعد أن تم الإعلان عنه سابقا، عدا عن مواجهته للدعاوى القضائية بتهم الفساد التي هزت قاعدته الشعبية، وتحقيقا للرغبة الإسرائيلية بالتطبيع مع جميع الدول العربية المجاورة والتي تحاول بكل جهودها الاستمرار فيه منذ أن بدأته رسمياً في العام 1978.
وبالتالي إن هذا التطبيع الجديد لا يخترع العجلة، بل سقطة مدوية، لأن كل الدول التي سبقت أبو ظبي بعشرات السنين لم تجن شيئا من (إسرائيل)، بل على العكس فاقم تطبيعها مع (تل أبيب) من أزماتها الداخلية والإقليمية، وعرض أمنها القومي للخطر، كما أن (تل أبيب) واصلت في اليوم التالي من توقيع الاتفاقية تآمرها على من وقعت معه.
وحتى لا نذهب بعيدا، فالتصريحات التي أدلى بها رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي بنيامين نتنياهو رفض فيها بشكل علني قيام الولايات المتحدة الامريكية بتزويد أبو ظبي بطائرات إف-٣٥" الامريكية الصنع والتي لا تكتشفها الرادارات.مهدداً في حال إصرار إدارة ترامب على عقدها بالتوجه إلى الكونجرس حيث النفود الاسرائيلي القوي لإحباطها.
فهذا الموقف لنتنياهو ينسجم اولاً مع موقف صهيوني عقدي توراتي يرى أن التعامل مع "الغوييم" الغرباء او الأغيار ومنهم العرب يجب ان يتم عبر واحد من طريقين لا ثالث لهما إما القتل والتصفية والعزل السياسي للمقاومين او التسامح والإبقاء على قيد الحياة لمن يقبلون منهم العيش في خدمة بني "إسرائيل" كحطابين وسقائي ماء حسب التوراة، خدم ووكلاء أمنيين مقابل جزء من أرباح أو رشة مالية ومشاريع مشتركة حسب لغة العصر الراهن.
و لأنه ينسجم ثانياً مع موقف ثابت لكل الحكومات رؤساء الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة فحواه رفض قيام أي طرف دولي بتزويد الدول العربية، حتى المعتدلة منها او المرتبطة بمعاهدات سلام مع (إسرائيل) بأسلحة متطورة كاسرة التوازن على اعتبار ان ذلك يشكل تهديداً لتفوق جيش الاحتلال الإسرائيلي العسكري الاستراتيجي والنوعي على جيوش الدول العربية مجتمعة.
وينسجم ثالثاً مع موقف صهيوني عنصري واستعلائي يرى حتى في العرب والفلسطينيين الذين وقعوا معها على اتفاقيات ومعاهدات سلام وقدموا لها تنازلات لم تكن تتوقعها لامست تبني الرواية الصهيونية التوراتية على انهم فعلوا ذلك مرغمين ومحركهم في ذلك الخوف من البطش الصهيوني أو او لضمان الحصول على الحماية الاميركية من شعوبهم التي ينهبون ثرواتها ويفقرونها ويذلونها ويحرمونها من ابسط حقوقها الأساسية.
وينسجم رابعاً مع قناعة إسرائيلية راسخة بأن حكام الدول العربية الذين وقعوا على معاهدات سلام مع (إسرائيل) والذين في طريقهم إلى التوقيع على معاهدات مماثلة مثل حكام دولة الإمارات العربية المتحدة وحتى لو تماثلوا مع (اسرائيل) في موقفها المعادي لايران ومحور المقاومة إلا انهم مكروهون من قبل شعوبهم ومعرضون للسقوط في اية لحظة ولذلك فإن حرمانهم من الحصول على أسلحة متطورة هو حاجة أمنية لـ(إسرائيل) التي لا تريد ان تنام بين القبور لكي لا ترى احلاماً مزعجة.
العبرة التي ينبغي على قادة دولة الإمارات العربية المتحدة امعان النظر فيها، أن (إسرائيل) وعقب ٤١ عاما على توقيع "معاهدة السلام" مع مصر في 26 مارس/ آذار 1979، مازالت تعتبر مصر عدوا لها، تتآمر عليها في مياهها عبر تمويل سد النهضة، وفي غازها، عبر الاستحواذ عليه، كما أن (إسرائيل) لم تقدم شيئا لحلفائها واكتفت بمراقبة بعضهم وهم يسقطون كما جرى مع حسني مبارك، ومثال أوضح كذلك أصدقاؤها الأكراد الذين باعتهم بثمن بخس، وتركتهم يواجهون مصيرهم المحتوم، كذلك ماذا جنى أصدقاء تل أبيب في جنوب السودان الذين أغرتهم بالانفصال وتركتهم عقبه يواجهون الفقر والجوع والاقتتال.
في واقع الأمر سيؤدي هذا الاتفاق لنسف جميع ما سبقه من المبادرات واتفاقيات السلام مثل مبادرة السلام العربية وقرارات القمم العربية والإسلامية، والعديد من قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، حيث أعلن الرئيس الامريكي ترامب أنه اتفاق مختلف لأنه قائم على مبدأ "السلام مقابل السلام"، في حين قامت مبادرة السلام العربية على مبدأ "الأرض مقابل السلام".
حقيقة لا يمكن أن يُفسر هذا الاتفاق إلا في إطار انتهاز فرصة لتحقيق المكاسب المختلفة بعد تخطيط مسبق عبر ما يقارب عقدين من الزمن، فهو عبارة عن تبادل للمصالح ما بين طرفين على حساب طرف ثالث هو الجانب الفلسطيني. وإن كانت هذه الصفقة قد تمت من أجل مصلحة الفلسطينيين شعباً وقيادة كما ذُكر، وفي سبيل إيقاف المخطط الإسرائيلي بضم أراضي الضفة، فلماذا لم يكن الجانب الفلسطيني طرفا فيه؟ ولماذا تم تجاهله؟ أم أنها قد جرت العادة على استضعاف واستبعاد الطرف الفلسطيني فيما يخصه من اتفاقيات؟ وكما نعلم فقد عُقدت سابقا ورشة البحرين وتلاها متأخرا الإعلان عن بنود صفقة القرن دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي تدخل لا مباشر ولا غير مباشر بذلك.