الآن؛ كان عليها النوم بهدوء، فلم يبق أمامها سوى يوم واحد يفصلها عن معانقة فرحة انتظرتها أربع سنوات، وزفر شوقًا ظل مشتعلًا بداخلها، بعدما كان الوقت يمرُ وكأنَّه يوقد على "نار هادئة".
كان من المفترض أن تعيش فرحة تخرجها في السادس والعشرين من آب (أغسطس) الماضي، ومن شدة حماسها لذلك اليوم شاهدت خريجة الصحافة والإعلام في الجامعة الإسلامية آمنة النواتي كل حفلات التخرج التي سبقتها عبر البث المباشر على صفحة جامعتها، لعلها تبرد شوق قلبها، وتواسي انتظارها وهي ترى الخريجات يرتدين "روب" وقبعة التخرج، ويلتقطن الصور، ويصعدن على خشبة التكريم، يمر الوقت ثقيلًا عليها، لم تعش أبطء من تلك الأيام.
انتظرت "آمنة" احتفالها بصبر نافد، وعلى أحر من الجمر، قبل أن تخرج كلمات عريف حفل التخرج الذي سبق حفلها بيوم معتذرًا عن إكمال المراسم: "لأسباب طارئة خاصة بكورونا نكتفي بتسليم الشهادات"، هنا علمت أنه ستلغى كل الحفلات القادمة، غلبتها دموعها ومرت الليلة كأنها آخر ليلة لها، شعرت "وكأن الدنيا أغلقت في وجهها".
تجسد آمنة حال كثيرين، فقرار الوزارات بغزة إغلاق المحافظات وحظر التجوال في قطاع غزة، بعدما ظهرت حالات إصابة بفيروس "كورونا" داخل المجتمع، كان مباغتًا لهم، إذ كانت هناك مراسم كثيرة توشك أن تكمل فرحتها، هناك من انتظر: (مولوده الأول، أو حفل تخرجه، أو بناء منزله، أو إشهار خطوبته ...)، كل واحد منهم كان له قصة مختلفة عن الآخر، كلٌّ كان سيحتفل على طريقته.
وقبل أن تغفو عينا كل واحد منهم على وسادته وهو ينتظر مرور آخر لحظة تفصله عن فرحته، أعاد الحظر الاضطراري أحلام هؤلاء للوراء، وهم يحملون ثقل شوق انتظارهم مرة أخرى، فغابت تلك الفرحة أمام "الصدمة".
إلغاء "مفاجئ"
"لا شك كأي طالبة خططت لأكون ملكة هذا اليوم، بلمة أهلي قربي وفرحتهم وسعادتهم، بلمة صديقاتي اللواتي شاركنني في مشوار أربع سنوات، وأن نحتفل ونلتقط الصور، ونغني ونتبادل الضحكات، والعناق كآخر يوم سنتقابل فيه، خططنا كيف نحول يوم التخرج إلى يوم عيد" تلك أحلام آمنة النواتي ورفيقاتها التي جاءت الرياح معاكسة لها.
"يوم أن أحصد ثمار تعبي وسهري، وجهدي، اليوم المنتظر، اليوم المتوج بنشوة النجاح، يوم أقرب للانتصار" كان ذلك يمثل لها، فـ"فرحة النجاح هي أعظم فرحة ممكن أن تمر على قلب الإنسان، فمال بالك بفرحة تخرج الجامعة؟!" تتحسر.
ارتدت الثوب والقبعة قبل حفل التخرج خلال جلسة تصوير خاصة، التقطت فيها الصور مع والديها، وبهذا "بردت شوقها للحفل شيئًا ما"
لقد مر السادس والعشرون حزينًا على آمنة وزميلاتها، أقامت مراسم مواساة لنفسها، وحيدة بين جدران غرفتها بعدما أجل الحفل، "شعوري الآن وكل وقت بدعي أن تمر الأيام على خير، وربنا يزيل عنا الوباء والبلاء، ونكون بأحسن صحة وسلامة عشان نقدر نرجع نحتفل ونفرح نفسنا وأهلنا وأحبابنا" تمني النفس أن تكون هذه اللحظة سريعة، ليتها تستطيع أن تغفو على وسادتها لتستيقظ وترى نفسها على خشبة التكريم وقد غادر الفيروس قطاع غزة بلا "رجعة".
مولود بلا مراسم
بعيدة عن أهلها؛ تستعد إسلام مقداد لاستقبال مولودتها البكر الأولى بعد ثلاث سنوات من الزواج، أعدت مراسم استقبال خاصة للوافد الجديد، بأن تحيك ملابس خاصة لطفلتها مطبوعًا اسمها عليها، وتقيم أسبوعًا للفرح بها تشاركها فيه عائلتها وأصدقاؤها وكل من يحبونها.
لكن الأحلام السابقة انهارت أمام أزمة فيروس "كورونا"؛ فعائلتها تعيش بمدينة غزة، وهي بمحافظة خان يونس؛ والآن فصل تام بين المحافظات، "للأسف شكله لا حأعمل أسبوع ولا حيجي حدا يزورني في هالوضع" وصلت إلى هذه القناعة، أمام صعوبة الواقع.
تخرج ما في جعبتها من تفاصيل المخطط: "وضعت خطة لأمور عدة، خاصة أن في هذا الشهر ذكرى ميلادي، خططت أن ألتقط صورًا قبل الولادة بأجواء مليئة بالسعادة فكان حملي خطرًا؛ وكنت أغلب الوقت أجلس بالبيت، ولا أخرج إلا إلى المشفى أو الطبيب الخاص".
في حلقها غصة حزن وهي تعيد رسم المخطط، بعفوية تتحدث مواسية نفسها: "كنت بستنى الشهر التاسع عشان أتمشى وأعمل شغلات لتجهيز ما يلزم المولودة من نواقص، ولتهيئة نفسي للولادة واختيار المستشفى والطبيب، والآن عندي مخاوف كتيرة".
"مش خايفة على نفسي قد ما خايفة على الجنين، لا سمح الله أن يصيبه شيء بعد كل هالمعاناة وثلاث سنوات زواج ومعاناة الحمل الصعبة يلي مريت فيها" تباغتها تلك المخاوف وأسئلة أخرى: من سيهتم بها؟، وهل الوضع سيبقى هكذا؟، وهل حقًّا لن تستطيع رؤية أحد من أهلها، أو يأتي ليشاركها في فرحتها؟
لكنها تفكر الآن بعدما رأت الواقع أن تأتي مولودتها بـ"بسلام وخير ولا يصيبها شيء"، راجية الله أن "تمر الأزمة على خير، وتكمل فرحتها لاحقًا".
بيت العمر مؤجل
بدأ في إنشاء "منزل العمر" قبل أزمة الفيروس، بعد أن ضاق به الحال في بيت العائلة، ما إن بدأ البناء بدأ الأمل ينبعث في نفسه من جديد، "يلقي العثرات وضيق الحال التي مر بها" وراء ظهره، وهو يرى قاعدة وأعمدة البيت تصعد للأعلى، معها كانت أحلامه تلامس السماء، وفي الوقت الذي جهز العمال سكب الباطون عليه ليكتمل البناء، وقبل "الصبة الخرسانية" توقف العمل نتيجة الجائحة.
"تضررت بسبب الأزمة أزمة كورونا، لكوني أعمل في المجال الصحي وزوجتي، وهناك مدة حجر، ودوام طوارئ وصعوبة في التنقل، وحظر للتجوال، ما صعب على العمال الوصول إلى العمل وإغلاق مصانع الباطون من جانب آخر" كل ذلك كان له الأثر المؤلم في نفس خالد "30 عامًا" (اسم مستعار للشاب الذي طلب عدم كشف هويته)، وثبط لديه كل لحظات الفرح ببناء منزله، ولكن "تبقى صحة وسلامة المجتمع فوق كل هذه الأماني".
الآن يستعد لإمضاء مدة حجر صحي في مستشفى "غزة" الأوروبي، وتبقى أحلام أطفاله الثلاثة مؤجلة "حتى إشعار آخر" إلى أن تعود عجلة العمل، ويكتمل بناء بيت العمر على مساحة 150 مترًا مربعة خصص فيه غرفة لطفلتيه وواحدة لابنه، يعترف: "كنت أنتظر يومًا بعد يوم على أمل الوصول إلى إكمال منزلي (...) أطفالي وزوجتي يستعجلون الوقت أكثر مني لنرى بيتنا وحلم عمرنا قد تحقق أمام ناظرينا".
يا "فرحة ما تمت"
"عقد قران قلبي على قلبها" هكذا أشرك فادي الطهراوي (30 عامًا) أصدقاءه في فرحته على صفحته الشخصية في موقع (فيس بوك)، معلنًا خطوبته.
خطط العريس مراسم وداع لـ"العزوبية" بعقد حفل إشهار "مبهج" في 27 آب (أغسطس)، لكن "يا فرحة ما تمت"، تبدد كل شيء، وفرضت الظروف خيارات "مرة" عليه، لم يتوقع أن تكون فرحته "صامتة"، لكن أحكام الضرورة فرضت نفسها على الجميع.
"يا للأسف!، ألغي كل شيء، لم أشترِ شيئًا وكذلك خطيبتي، أواجه ظروف حظر التجوال، كلما رغبت في زيارتها، مع أنها تسكن بمنطقة قريبة من سكني بمحافظة خان يونس، وإذا زاد الوضع سوءًا فلن يكون هناك زيارات"، لذا أفصح عن قراره، بشيء من المواساة: "راح أحاول أجهزلها وأجهز الطقم، وآخد خطيبتي متل الناس دون مراسم".