خرج من الأسر حاملًا معه ثقل آخر حوار مع أمه حينما قالت له عبر سماعة الهاتف: "يما أنا بخير؛ تقلقش علي، ضايلك تسعة أشهر ويومين"، يومها كانت والدته تعد السنين والأيام، يذيب الشوق صلابة الانتظار بداخلها، تمني النفس أن تكحل عينيها برؤيته، ويبرد شوقها بمعانقته، هو كذلك كان يتخيل المشهد وهي تفرد ذراعيها قادمة من بعيد لاحتضانه ومعانقته بشوق، ليتكئ على كتفها، لتغسل بدموعها لحظات مرت بطعم "العلقم" داخل السجن، إلا أنه أفرج عنه وحرم ذلك المشهد؛ فقد توفيت أمه قبل تسعة أشهر.
17 عامًا ليس رقم عاديًّا عابرًا؛ بل هو عمر سرق من حياة الأسير المحرر إبراهيم البيطار، أذبل حياته، دخل السجن بزهرة شبابه وعمر لم يتجاوز اثنين وعشرين عامًا، والآن هو على أبواب الأربعين.
قائمة طويلة مما حرمه، في البداية حرم إكمال دراسة الحقوق التي لم يدرس فيها سوى عامين، فرقه الأسر عن والدته التي غيبها الموت، فخرج ولم يجدها، حتى فرحة الإفراج كانت بمراسم صامتة فرضتها الإجراءات الاحترازية من فيروس "كورونا"، فتنازل الأسير المحرر عن تلك الفرحة لأجل "السلامة العامة" للناس.
"كنت أتشوق لرؤية غزة، مشتاق لبحرها، والبلد، والشوارع، والجامعة التي لم أكمل بها دراسة تخصص الحقوق، التي سأعمل على إكمالها، فكما هو معروف في السجن يتاح لك دراسة "التاريخ أو الخدمة الاجتماعية" كطائر يتنسم الحرية أول مرة، تغمر فرحة الإفراج صوته، من سماعة الهاتف تتزاحم أصوات بعض مهنئين حوله، وتتزاحم كلمات الفرح وقبلها "الحمد لله" أن خرج من السجن.
السابع من أغسطس آب 2003م تاريخ غير مسار حياة البيطار: "أصبت باشتباكات مع قوات الاحتلال في مخيم خان يونس، في الإصابة فقدت النظر بعيني اليمنى، فسافرت للعلاج بمصر، وفي أثناء عودتي للقطاع اعتقلتني قوات الاحتلال التي كانت توجد بمعبر رفح قبل دحر الاحتلال من قطاع غزة، وأُسِرت بدعوى الانتماء للمقاومة وحكمت 17 عامًا".
واقع مختلف
في مكان معزول عن العالم الخارجي، كان عليه أن يغير روتين حياته، أن يتكيف مع الواقع الذي فرض عليه، فكان القرآن والكتب صديقيه الدائمين، يقول: "وضعت نظامًا خاصًّا للقراءة، حتى لا أشعر بالفراغ وأستفيد من الوقت، وجعلت وردًا يوميًّا لي (...) قرأت كتب التاريخ والتربية الإسلامية، والقانون".
لا يزال في البرنامج بقية: "قرأت نحو 100 كتاب وربما أكثر، فيجب أن يعد الأسير برنامجًا له، يستغل يومه في مجتمع مصغر عن العالم الخارجي داخل أسوار السجن، كنت أقوم بالتفاعل الاجتماعي، وأنخرط في الدورات، وفي النشاط الرياضي خلال مدة "الفورة" الصباحية، وكنا نتبادل الزيارات بين الغرف وأشارك الأسرى في أفراحهم وأحزانهم".
لكن لم يكن إحضار الكتب سهلًا، فالاحتلال فرض طوقًا معرفيًّا على الأسرى، يوضح أكثر: "كنا نواجه صعوبة، في السابق كانت إدارة سجون الاحتلال تسمح لنا بإحضار كتابين في كل زيارة، قبل أن تمنع إدخال الكتب، لذا اعتمدنا على ما توافر من كتب قديمة، كما أن الأسرى أنشؤوا مكتبة ضمت كل ما جمعه الأسرى من كتب".
في "رحلته القسرية" هذه، دخل الأسير معظم سجون الاحتلال، نقل إلى ما تسمى "عيادة سجن الرملة"، وسجن ريمون، وبئر السبع، لكن كانت معظم المدة في قسم رقم (11) بسجن نفحة، وكونه أسيرًا يعني أنه واجه مواقف عدة.
ينتقي بعضًا من تلك المواقف، كانت صاحبة السبق في المرور على حديثه: "الساعة الثالثة فجرًا، الليل أرخى ستاره، استيقظنا على صوت قوات الاحتلال التي اقتحمت القسم، أطفؤوا الأنوار، واعتدوا علينا، أعادني المشهد للحظات الاعتقال والترحيل".
الرحيل "الصعب"
هنا، دغدغ الموقف مشاعره، رحل صوته إلى ذلك اليوم المحمل بالألم: "أصعب شيء في حياتي هو وفاة أمي قبل تسعة أشهر، خاصة أنها كانت ممنوعة من زياتي، فكانت آخر زيارة لها إلي عام 2013م".
صمت قليلًا قبل أن يعاود الكلام: "ربما لم تزرني سوى عشر مرات خلال أسري".
رحلت والدته، وتركت ألف حضور لها في ذاكرته، لكن حضورها هنا كان مختلفًا: "في إحدى الزيارات العشر؛ سمح لها بالتقاط صورة معي".
لا ينسى ردة فعلها: "يومها لم تعطني مجالًا كي أقبلها، فقد انهالت قبلها علي بكل شوق، تعانقني بشدة وتضمني بين ذراعيها، يومها أدركت أن شوق الأم لا يعادله شوق".
"اليوم أتنفس عبق الحرية بفرحة ممزوجة بالحزن على فراق أمي" قالها وقد اعتصر الألم صوته.
لما أطل يوليو واقترب البيطار من حريته، كان الشهر أشبه بثلاثة أعوام، تمر الأيام بطيئة وهي تجر خلفها ما حمله من ثقل سنوات الأسر: "لم أستطع النوم إلا قليلًا، ربما ساعتين، عشت متوترًا لأني سأنسلخ عن مجتمع من داخل الأسر إلى الخارج، ولما ودعت الأسرى رأيت في عيونهم نظرات الحسرة".
السادس من آب (أغسطس) 2020م، فارق البيطار السجن، وألقى تلك السنوات في سجلات الذاكرة المؤلمة، وأفرج عنه، لكن كانت مراسم الفرح هنا مختلفة بعدما حجر، يعلق: "ذهبت من السجن إلى الحجر الصحي بغزة مدة 21 يومًا، الحقيقة أنني ضحيت عمرًا من أجل وطني ومستعد للتضحية بثلاثة أسابيع أخرى من أجل سلامة أهلنا".
كيف أمضيت مدة الحجر؟، "كان لدي صديقان وهما القرآن والهاتف هذه المرة" سبق رده ابتسامة صوته، مطلقًا لمشاعره التعبير عن فرحته: "سعادة كبيرة أن تتحرر بعد مدة أسر طويلة، وأن تكون بين أهلك، صحيح أنها لم تكن الفرحة التي تمنيتها، لكني مستعد بالتضحية بكل فرحتي لأجل سلامة الناس".