فلسطين أون لاين

​خزانة أبي

...
بقلم / زهية القرا

في بيتنا خزانة كانت أنظارنا معلقة عليها. نلف وندور وتبقى مغلقة ولا مفتاح يضل الطريق لأيدينا. في بيتنا خزانة كانت تفتح في مواسم معينة.. حين يبدأ العام الدراسي فتمتلئ بالدفاتر والتجاليد والأقلام والطوابع. وفي مواسم الأعياد حينما تمتلئ بحلوى الانجامين.

تلك الخزانة كانت تثير فضولنا وكنا جميعًا نتمنى أن نعبث بحرية بمحتوياتها دون رقيب.

عندما يفتحها أبي نقف بعيدًا نتلصص ما بداخلها. وكأنها صندوق العجب في الأفلام والروايات.

مرت الأيام ومات أبي رحمه الله ولم يترك لنا شيئًا سوى حبه وحنانه. مات أبي وجميعنا نحن أولاده أدخلنا رؤوسنا في باب الخزانة نعبث بالأشياء.. ولكننا فوجئنا بأنها غير مثيرة.. فيها بقايا دفاتر وأقلام وملاعق وحلوى.. ولم يعد السر الذي نبحث عنه في داخلها موجودًا.. وتساءلنا ما الذي كنا نبحث عنه؟... فلم نجد الإجابة.

فهمت بعد أن أصبحت أمًّا محمومة بأمومتي.. أن أشياء أبي التي كان يقدمها لنا هي فرحه بقدر ما هي فرح لنا.. فالدفتر كان يعنيه حلمًا لطفله أن يصبح قيمة ما بالعلم.. أبي كان يحلم أن نكون بخير.. وأن نصبح أحرارًا ومستقلين.. شهادة ووظيفة.. وبيوت آمنة.. الحلوى كانت تعنيه بسمة أحدنا وفرحه حينما يلوكها ويمتصها...

فهمت مع أولادي أن كل ما فعله أبي من عمل مجهد وتعب وعرق كانت نتيجته لنا.. وأنه لم يستفد من كل تعبه سوى أكله وشربه.. ولبسه.. فهمت كلمته حينما غادرت غزة للدراسة خارجها.. حينما ناداني ليلًا .. (يابا يازهية.. كوني بنت رجال وخليكي عند ثقتي فيكي.. ديري بالك ع حالك..اصحي تشمتي حدا فينا)..

يا الله يا أبي كم وددت أن نفهم نحن الأبناء قيمة الآباء والأمهات.. وأن نفهم محاذيرهم ليست قيودًا.. وإنما هي صناعة حرية.. يا الله يا أبوي كم قصمنا ظهرك همًا وراء البحار.. حينما لم نفهم قيمة المال الذي أنفقناه في تفاهات وأنت الذي قصم ظهرك تعبًا في العمل منذ الصباح حتى المساء..

يا أبي إني نادمة على أشياء كثيرة سببت لك وجعًا...

ولكني أخبرك يا أبي حيث ترقد في مقبرة بلدتنا البعيدة... إني احتللت مكانك وخزانتك وتعبك وشقاك.. لقد استلمت دفاترك وحسابات البنك والحب والاشتياق ..وأرسلها لأولادي يوميا..

ولكنهم يا أبي هم مثلي تمامًا ويسيرون على نفس خطاي...احذرهم فيبتسمون...وقد يتمتمون (مابك يا أمي أنت لاتفهمين عالمنا).. يا أبي هي الحياة تسير بنفس الخط وبنفس الدرب ولكننا نصل في نهايتها لنفس النتيجة..

اللهم ارحم والدي تحت الأرض ويوم العرض عليك.