بقي شهران كي يعانقَ خطيبُها الحرية، وتعانقهُ هي بل وترمق عيناها ملامحه للمرة الأولى منذ أن ارتبطا قبل عامين لتطابق تلك الملامح صورته التي احتفظت بها في مخيلتها، وكأنَّ الأيامَ المتبقية تسيرُ على سطح "سلحفاة" تجر خلفها حملًا يبطئ حركتها.. تمر وكأنها أشبه بعامين؛ تراودها هواجس مرهقة، فالمسافة بينهما لا تفصلها قضبان حديدية فقط، بل 78 كيلومترًا في طريقها من غزة إلى القدس، وما بين المسافتين التي لا تزيد على ساعتين في السيارة، قيود، وحواجز، وحصار، احتاجت منها انتظار عامين على أمل أن تظفر بزيارة خطيبها مرة واحدة، إلا أن "الرفض" كان الجواب دائمًا على طلبها.
قد يبدو ارتباط فتاة غزية بأسير مقدسي أشبه بـ"مستحيل"؛ لتعقيدات الخروج من غزة، كذلك غالبًا ما يمنع الاحتلال الأسرى من السفر خارج فلسطين المحتلة؛ لكن فاتن إسماعيل من (مخيم المغازي) وسط قطاع غزة، خاضت غمار المستحيل بالموافقة على الارتباط بالأسير أيمن سعيد حميدة من منطقة "العيزرية" بالقدس المحتلة الموجود حاليًّا بسجن "النقب الصحراوي".
التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2020؛ موعد حرية أيمن، وموعد زفافه بفاتن، حجز العروسان صالة "الفرح" في بلدة "العيزرية" شرق القدس ليكون "الفرح فرحين"؛ إلا أن هذا يحتاج إلى "معجزة" وتدخّل مسؤولين، للضغط على الاحتلال، لتخرج فاتن من القفص الكبير المحاصر إلى القدس، فكلاهما مشترك في معاناة واحدة، عاشا في سجنين وإن اختلفت أحجامهما.
صورة وارتباط
لكن للقصة "أصل وفصل"، بدأت خيوطها، ففاتن ومنذ سنوات تتضامن مع قضية الأسرى "قلبًا وقالبًا"؛ يوم الاثنين بالنسبة لها "مقدس"، لا تترك اعتصامًا أسبوعيًّا لأهالي الأسرى، إلا وتشارك فيه، "كنت أطبع صور الأسرى على نفقتي الخاصة، وفي يوم رفعت صور أيمن؛ قدرًا رأى الصورة التي عرضت على التلفزيون".. من هنا أصبح اللاممكن ممكنًا، وكان الشيء العادي الذي قامت به فاتن مقدرًا لدى أيمن، فحجز لها مكانًا في قلبه: "رفعي لصورته كان من أهم ما أعجب أيمن وشده لخطبتي، فمنذ صغره يتمنى أن يرتبط بفتاة غزية، لما عرف أني غزية صمم أكثر على الارتباط".
تلا ذلك زيارة أهله وفيها أفصح لشقيقته عما شاهده، وطلب معرفة ومتابعة من التي كانت تحمل صورته؛ للتفاصيل بقية هنا: "بالفعل تواصلت أخته هاتفيًّا معي؛ وأبلغتني بنيته الارتباط، كان شيئًا مفاجئًا وأمرًا لا يصدق، كنت في صراع مع الذات: كيف سأرتبط بأسيرٍ تفصلنا مسافات جغرافية، وقيود، وإجراءات احتلالية معقدة، أحيانًا تراودني تساؤلات: "حتمًا سأفشل"، إلا أن إيماني بأن القلوب إن اتحدت ستغلب جبروت السجان، وتكبده هزيمة بمعركة الصبر.
مراسم الارتباط هنا مختلفة عن أي مراسم عرفتها، صحيح أنها تمت حسب "العادات والتقاليد" المتعامل بها، بدأت باتصال من مختار عائلة "حميدة" بالعيزرية بوالد فاتن، وطلبها رسميًّا، ثم أرسل أهل العريس للعروس جاهة من أقاربهم في غزة في اليوم التالي، واتفقا على تحديد موعد عقد القران.
هذا الموعد الذي بالعادة لا يستغرق أكثر من ساعات، استغرق خمسة أشهر هنا، لحين ذهاب اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى السجن واستلام التوكيل والتوقيع عليه من محكمة "العيزرية" ومن ثم إرساله لقريبه بغزة والذي كان وكيله بمحكمة دير البلح.
سقطت دمعة من عينيها، حينما ألبست نفسها دبلة الخطوبة كعرف لتأكيد الارتباط، وكتبت في مخيلتها "ملعون؛ من فرقنا يا أيمن.. ملعون من منعنا فرحتنا"، غلبتها آهات حزنها: "آه.. لو كنت من ألبسني الخاتم"، ثم تلاشى المشهد من مخيلتها أمام دموع جرت على خدها، سالكة طريقها كذلك على خدي أيمن، هو الآخر عاش ما عاشته.
"يوم عقد القران زارته أمه بالسجن، فاستقبلها بالدموع لأنه تمنى أن يكون بجانبي بالمحكمة، ونحتفل معًا (...) وقتها كنت بالمحكمة وحيدة من دونه، الفرحة منقوصة لغياب الشريك، فكان أصعب موقف يمر علينا".. تعيش المشهد مرة أخرى.
"زوجتك موكلتي لموكلك"، مشهد غابت عنه مراسم الارتباط التقليدي، لكن لم يغِب عنه مشهد إعلان الانتصار، هنا وهناك في السجن كذلك عم الفرح بين الأسرى، حينما أطلقت الزغاريد التي مسحت دموع فاتن.
"فخر لأي فتاة الارتباط بأسير؛ سواء كان من الضفة أم من غزة، لذا أفتخر بأني خطيبة أسير".. أمام قناعتها تلك ارتبطت بـ"أسير ضحى بعمره، وسرقت زهرات شبابه وأجمل مراحل حياته، بعدما دخل السجن بعمر لم يزِد على اثنين وعشرين عامًا، وحاليًّا بات على أعتاب منتصف الأربعين من عمره" فكان "تقدير آخر" لهذه التضحية.
أيمن بالنسبة لها: "شاب قدم عمره وحياته لأجل أرضه اعتقل في "عز شبابه" فرغ حياته للدفاع عن أرضه وقدسه، تنقل بجميع السجون".
زيارة غائبة وفرحة منتظرة
تغافلها دمعة حزن، وصوت مسكون بالألم: "كخطيبة أسير قضى 23 عامًا، تبقى شهران على تنفسه الحرية، لم أستطِع رؤيته منذ ارتباطي به قبل عامين، ولأنني من قطاع غزة لم أستطِع زيارته ولو مرة واحدة، أتدري أني مرتبطة ولا أعرف شكله وملامحه إلا عن طريق صور أرسلها أهله، توجهت للمسؤولين وللجنة الدولية للصليب الأحمر ومكتب الشؤون "المدنية" (تابع للسلطة) لمساعدتي لكن دون جدوى حتى اللحظة".
في ظل الحصار المفروض على غزة كان لأهالي الأسرى جزء من المعاناة، والذي حرموا فيه من زيارة أبنائهم داخل سجون الاحتلال، وكانت فاتن من ضمن هؤلاء الذين يعانون عدم السماح لهم بالزيارة، ودفعت ضريبة لقرارات الاحتلال.
تعلق: "كل يوم أمني النفس أن أحظى بفرصة زيارة، ثلاثة أعياد مرت ولم أشعر بفرحة العيد، فكانت جدران السجن الفاصل والمانع لإكمال فرحتنا".
كيف تتواصلون؟ سبقت الإجابة ضحكة كتمت بداخلها مائة تنهيدة من ألم: "التواصل فقط عن طريق عائلته، فعندما يزوره يقومون بطمأنتي عليه وعلى أحواله، أما أيمن فهو كل اثنين يراني في الاعتصام الأسبوعي داخل مقر "الصليب الأحمر" عبر التلفزيون.
"عن نفسي أتمنى رؤيته دقيقة، لأني من لحظة ارتباطي به أريد رؤيته شكله، ملامحه، كأي خطيبة ترى خطيبها".. لكن ما تمنته فاتن كان أصعب مما تخيلت.
ما إن تطل شمس الاثنين من كل أسبوع؛ تحمل فاتن صورة خطيبها أيمن، وتحمل آمالًا بأن "يصبح المستحيل ممكنًا"، بأن يتم اللقاء، ويسمح لها بالخروج إليه، لتتكلل مراسم الخطوبة بالزواج، تلقي ما قاله لها أحد الموظفين بوزارة الشؤون "المدنية": "الحل عندك إنك تطلقي".. خلف ظهرها، لا تريد التفكير به حتى؛ أو طرحه كسيناريو قد يحصل، تتحدى كل الظروف التي وجدت نفسها عالقة بها، تريد الرسو بسفينتها على شاطئ قلب أيمن مهما كلفها ذلك من ثمن وتضحيات.