المركب يركضُ هاربا من ضجيجِ الشاطئ فيستقرّ في عمق البحر، و"هيا" تتأهب باستقامة على حافته قبل أن تهمَّ بالغوص مباشرةً في منتصف المياه الهادئة لتباشر السباحة واصلةً إلى الشاطئ في "مغامرة" فرضتها على نفسها لتحقيق حلم يستحق خوضها.
تطوي هيا الجرجاوي عامها الـ26 وهي تتذكر مراحل حياتها التي امتلأت بالتحدي والإصرار على أهدافها الصعبة ولا يزال في جعبتها فائض من الأحلام.
نشأت هيا في حي الدرج بغزة، درست العلوم السياسية، وهوت السباحة التي تنامى عشقها تدريجيا بداخلها منذ الطفولة حين التحقت بالتدريبات الخاصة بالأطفال وهي بعمر 10 أعوام، فتطور لديها مفهوم السباحة من تسلية إلى ضرورة لا تستقيم الحياة دونها.
محاولات
قررت أن تصبح سبَّاحة محترفة وتتلقى التدريبات اللازمة، ورغم أن تدريب الفتيان متاح على مدى واسع سواء في البحر أو المسابح فإن ذلك قد ينقلب عند الحديث عن الفتيات:" فكرة إنشاء نواد متخصصة في قطاع غزة لتدريب وتطوير مهارات السباحة لدى الفتيات غير منتشرة" تتحدث هيا خلال دردشة مع صحيفة "فلسطين" وقد كان مجرد الحلم في أن تصبح سبَّاحة ماهرة يبدو لها ضربا من المستحيل.
هذا ما صنع حاجزاً أمام هيا التي لم تجزع ودأبت على البحث عن أماكن تتمكن فيها من السباحة كخطوة أولى، فكان البحرُ خير وسيلة تمارس هيا السباحة من خلالها.
"كنتُ أقفز من "اللنش" وأسبح حتى أصل الشاطئ" تقول هيا كأنما ترتبُ محطات الحلم.
ولم تكتفِ بأن تتقن "العَوْم" فحسب، بل وجدت أن تبدأ بتعليم نفسها ذاتياً عبر الذهاب إلى المسابح النسائية المتوفرة وتطبيق ما تجده على موقع "يوتيوب" واقعياً في المسبح، لكن هذا لم يفدها كثيراً في ظل عدم وجود خبيرة سباحة في المكان تصحح لها الحركات التي تقوم بها آنذاك.
" كنت أعرف السباحة الحرة، وسباحة الصدر والظهر، لكني أريد مدرباً يوجهني هل ما أنفذه صحيح أم أني أقوم بالتمارين بالشكل الخاطئ؟" تصف هيا تخابط أفكارها في تلك الفترة بين رغبة التطور وعدم إيجاد المُعلِّم.
رغم أن الجهد الذاتي ظل مستمراً فإن هيا لم ترض أن تقتصر على أسس السباحة فحسب، بل أصرت أن تتعلم ثانويات هذه المهارة، فبحثت عن من يفيدها في هذا الموضوع لتتقاطع خطاها مع المدرب محمد عبد الهادي، وتكون نقطة الانتقال من ممارسة السباحة إلى التدريب الفعلي نحو الاحتراف.
لم يكن الموضوع سهلاً على هيا التي خضعت في البداية لاختبارات أثبتت خلالها أنها تستحق تدريبات الاحتراف، فتبدأ بعدها بممارسة التمارين مع المدرب.
تكبدت هيا وعائلتها عناء هذه الرحلة. "كان عمري 19 عاما عندما بدأت بتدريبات الاحتراف، وكان أخي من أشد المشجعين لي فرافقني طيلة فترة التدريب خلال المواصلات من حي الدرج إلى خانيونس حيث مكان التدريب، وأيضاً خلال التدريب نفسه".
لأن هيا على سابق معرفة بالتدريبات والحركات المتداولة في تدريبات السباحة، فلم تستغرق وقتاً طويلاً في التعلم، كما كان تصحيحاً لمسار تدريبها وحركاتها، وهذا ميز هيا لدى المدرب وأشعره ببذرة التحدي الموجودة بداخلها، فأصبح من مؤيدي وصولها إلى أهدافها وساعدها في عبور طريق الاحتراف.
حلمٌ يتجسد
اختبر مدربون محترفون هيا وأجازوها في مجال التدريب، لتباشرَ العمل في المسابح المختلفة سواء بالإنقاذ أو التدريب وتكون وهي في عمر 21 عاما ضمن عدد محدود من مدربات السباحة بقطاع غزة، يفيد نائب رئيس الاتحاد الفلسطيني للسباحة محمود شمعة بأنه كان لا يتجاوز الخمس مدربات.
هيا التي عملت منقذة مسبح في عدد من المنتجعات ومدربة سباحة في نادي الدولفين للرياضة المائية، تقضي يومها بجانب المسبح، هذه الوظيفة التي قد تبدو من وجهة نظر المعظم "نادرة للفتيات" فإنها تتحدث عن نفسها اليوم وقد شعرت بالرضا عن إنجازها وتحقيقها لـ"الحلم المستحيل".
"لا يمكن أن أشعر بالحزن وأنا قريبة من المسبح" تتحدثُ هيا وهي تطالعُ المسبح الكبير المقابل وقد بدا لها شيئاً طارداً للهموم، كطفلٍ يفرحُ للتو بلعبته الجديدة.
لم تأخذ هيا السباحة كهواية فقط أو كمهنة، فبالنسبة لها أسلوب حياة:" السباحة هي الصبر وعدم الاستسلام عند أول فشل" تقول هيا موضحةً أن تدريبات السباحة تشابه إلى حد كبير معارك الحياة، لا يبدأ أحد بالغطس مباشرةً لمدة دقيقتين أو ثلاث تحت الماء، وإنما بالتدريج أو كما تقول هيا "بالمحبة"، وهكذا تُنالُ صعابُ الحياة.
ذلك أن هيا تؤمن أنها ستنال بالصبر –أيضاً- كل ما تبتغيه من الأهداف التي خطتها بشكل جميل في مشوار الاحتراف.
تتطلع بعينين ملؤهما الأمل أن تُتاح لها فرصة السفر إلى الدول المجاورة لاستكمال طريق الاحتراف وتطوير مهاراتها في هذا المجال، لكن الحصار يأبى إلا أن يلقي بظلاله على كل تفاصيل الحياة مما يجعل التواصل بين قطاع غزة والعالم من حولها أمراً شاقاً.
فهل غمار الأيام المقبلة ستحملُ بصيصاً من الأمل إلى أحلام هيا؟