قد لا يكون مسمّى الاتفاق (التاريخي) الأخير بين كيان الاحتلال ونظام الإمارات مهمًّا، ذلك أنه في جوهره وآثاره يتجاوز مفهوم تطبيع العلاقات، مثلما أنه أكبر من مجرّد اتفاق سلام، إذ لم تكن هناك حالة حرب أو تنازع تاريخية بين الكيانين ليأتي هذا الاتفاق وينهي تلك المرحلة بقواعد محددة، وتوافقات فيها مكاسب وخسائر لكلا الطرفين.
ما حدث أكبر من كل هذا، وبالنظر إلى مسيرة حكام الإمارات الطويلة الحافلة بالشرور والإفساد في المنطقة، كان طبيعيًّا تتويج تلك المسيرة باتفاق العار العلني هذا، وكان هذا النظام يبدو منسجمًا مع دوره الوظيفي القذر وهو يعلن الأمر بلا خجل، ودون تلك الديباجة الطويلة من التسويغات التي اعتادت الدول العربية السابقة إلى التطبيع أن تقدمها بين يدي اتفاقات (السلام) التي صنعتها مع "إسرائيل".
ودعك من أكذوبة استعداد "إسرائيل" لتعليق خطة الضمّ في الضفة الغربية مقابل الاتفاق، ليس فقط لأنها نفت تراجعها عن المخطط، بل لأنها ماضية فيه عمليًّا دونما ضجيج أو إعلان، ولأن مفهوم (التعليق) أصلًا لا يعني التراجع عن مخطط الضم، وهو ما يذكرنا بتلك المصطلحات المخادعة بشأن الاستيطان التي كانت تطلَق بين يدي مشروع المفاوضات، وكانت تركز على تجميد الاستيطان بدلًا من إنهائه، وها نحن نشاهد نتيجة تلك المصطلحات الإعلامية المخاتلة.
والحال أن سياسات نظام الإمارات على مستوى الأمة لم تقترن إلا بالخراب والقتل وإجهاض الآمال وملاحقة الأحرار وتخريب الثورات، فكيف لعاقل أن يتصور أن يكون الحال مختلفًا مع القضية الفلسطينية أو أن يثمر إعلان اتفاقها التاريخي مع "إسرائيل" شيئًا من الخير لفلسطين وشعبها، في حين الجيوش الإلكترونية لحكام الإمارات والسعودية تبثّ الزيف ومشاعر الكراهية، وتحيي العنصريات السقيمة، وتشكك بالحق الفلسطيني، وتغازل الصهيونية علنًا وبلا حياء؟!
يحق للصهيونية ورعاة مشروعها أن يكونوا اليوم في سعادة غامرة وهم يظفرون بهذا النمط الدنيء من العبيد وسدنة سياساتها، فهم لا ينتظرون مقابلًا لقاء خدماتهم الجليلة التي يزجونها للمشروع الصهيوني، في حين هذا الأخير يؤسس بؤرة جديدة معلنة للتجسس وتمتين أمنه ومحاربة مشاريع المقاومة في الأمة، وسط تصفيق وحفاوة غير مسبوقين من معظم حكام الخليج وبطانتهم وذبابهم الإلكتروني، الذي أخذ على عاتقه مهمة تجميل وجه الاحتلال وكسر حواجز النفور منه، وتحقيق انسجامه النفسي في المحيط العربي، بعد أن ظلت حالة العداء التاريخية والشاملة لهذا الكيان تستعصي على الكسر، ولا تجرؤ حتى أنظمة الدول السابقة في التطبيع كمصر والأردن على تحطيمها، أو حمل الشعوب على تقبّل التعايش مع هذا الكيان.
ما يفعله نظام الإمارات أكبر من مجرد تطبيع للعلاقات، إنه تأكيد لاصطفافها ومعها أنظمة خليجية أخرى في خانة رعاية المصالح الصهيونية، وإعلان صريح بأن دورها الوظيفي أن تظل أمينة على المنجزات الاستعمارية في المنطقة، مع كل ما يقتضيه ذلك من إطلاق ليد الإفساد في المحيط العربي، وإبقائه رهنًا لواقع الاستبداد، ومجابهة كل بوادر التغيير فيه طلبًا للحرية والكرامة، في حين الجزاء الذي ترجوه من كل ذلك لا يتجاوز حماية عروشها، ورهنها لمن تظن أنه سيديم تمكينها وبقاءها، ويحول دون انهيارها.