فضَّل رجب أبو ريالة، الجلوس على رصيف مرسى قوارب الصيادين غرب مدينة غزة، يشكو همه للبحر بعد أن ترك شباك الصيد في عرض البحر مرغمًا وهاربًا من زوارق بحرية الاحتلال الإسرائيلية التي لاحقته وحاولت النيل منه وآخرين، فجر أمس.
كان هذا الصياد في رحلة رزق اعتيادية تحولت إلى مطاردة على بعد ميلين من الشاطئ.
ويتأمل أبو ريالة القوارب بمرارة بانت على وجهه الشاحب، وبدا البحر على قدر اتساعه ضيقًا في نظر الصياد البالغ عمره (33 عامًا).
يطل قطاع غزة وتعداد سكانه أزيد من مليوني نسمة على جزءٍ صغير من شاطئ البحر الأبيض المتوسط بطول يصل لـ40 كيلومترًا، امتدادًا من شمال القطاع حتى جنوبه، وتعد مهنة الصيد مصدرًا مهمًّا لقرابة 4 آلاف صياد يقتاتون وعائلاتهم على صيد الأسماك.
وأبو ريالة الذي يعيل أسرة مكونة من 7 أفراد، أحد هؤلاء الصيادين الذين ورثوا حرفة الصيد أبًا عن جد، لكنه يعيش أسوأ فتراته منذ أن تعلم ركوب البحر قبل 17 سنة، بسبب تصاعد انتهاكات البحرية الإسرائيلية.
"لم أتعرض للملاحقة والتضييق طيلة السنوات الماضية مثلما تعرضت لها في 2020" قال أبو ريالة لـ"فلسطين".
ويخشى هذا الصياد فقدان شباك الصيد التي يملكها بعد أن انتهت رحلة الصيد بمغادرة البحر تطبيقًا لقرار الاحتلال بإغلاقه في وجه الصيادين، تاركًا إياها في عمق البحر. وقال إن جنود بحرية الاحتلال محتمل أن يصادروها، أو تتلف من جراء مرور وقت طويل عليها وهي في الأعماق، بسبب تحركها من مكانها مع التيارات البحرية.
إغلاق كامل
وكان جيش الاحتلال أعلن عن إغلاق مساحة الصيد في بحر غزة، أمس.
وذكر بيان لمنسق حكومة الاحتلال، أن وزير الجيش بيني غانتس صدق على توصية رئيس هيئة الأركان، والمنسق، و"الجهات الأمنية" في (إسرائيل)، بإغلاق مساحة الصيد في بحر القطاع كاملًا.
وهذا القرار لم يرُق كثيرًا لحسام أبو حسين البالغ عمره (49 عامًا). وقال لـ"فلسطين": قبل 30 سنة بدأت العمل في صيد الأسماك، لكن لم أواجه مشكلات خلال هذه الفترة مثلما واجهتها في 2020.
وأضاف أبو حسين أن بحرية الاحتلال تنفذ عدة انتهاكات بحق الصيادين، تشمل الملاحقة والاعتقال ومصادرة القوارب وتمزيق شباك الصيد، وتضييق المساحات وإطلاق النيران صوب محركات القوارب وتدميرها، واستهداف الصيادين مباشرة بالنيران أيضًا.
وتابع: إن الصيادين يعيشون أوضاعًا مأساوية بسبب تصاعد انتهاكات بحرية الاحتلال بحقهم، لافتًا إلى أن الاعتداء على قوارب الصيادين يكبدهم مخاسر مضاعفة في ظل الحصار المفروض على معدات الصيد وقطع الغيار اللازمة لصيانة القوارب.
ويصطف عدد كبير من قوارب الصيد عند رصيف ميناء غزة بانتظار عمليات صيانة يفترض أن تخضع لها هذه القوارب حال توفر المعدات اللازمة.
لكن أبو حسين يشير إلى أن مادة "الفيبرغلاس" والتي تدخل في صناعة القوارب، ويعاد من خلالها صيانة بضعها، ما زالت سلطات الاحتلال تمنع دخولها لغزة، إضافة إلى محركات القوارب وقطع الغيار الخاصة بها.
ولم تنتهِ معاناة الصيادين هنا فحسب، بل إن التلاعب بالمساحات البحرية وإغلاق البحر كاملًا وملاحقة الصيادين، أصبح أسلوبًا متبعًا لدى بحرية الاحتلال للتضييق على الصيادين الفلسطينيين.
وأكمل الصياد الذي يسكن في معسكر الشاطئ غربي غزة، أن الحصار وتداعياته وحالة الفقر في غزة وملاحقة بحرية الاحتلال لهم وتضييق مساحات الصيد؛ شكل ثالوث معاناة بالنسبة للصيادين وعائلاتهم جعلهم يعيشون أوضاعًا مأساوية في إثر تصاعد الانتهاكات.
وقرب ميناء غزة، وتحديدًا في حسبة الصيادين، المكان الأشهر في غزة لبيع الأسماك، بدا خاليًا تمامًا من الزبائن، ووقف تامر بكر أمام محله الذي يستأجره هناك بمبلغ سنوي يصل إلى ألفي دينار، يعرض أنواعًا مختلفة من الأسماك بكميات قليلة.
قال بكر البالغ (23 عامًا) لـ"فلسطين": إن الاقبال على الأسماك تراجع كثيرًا هذا العام.
ويؤكد أن ذلك يرجع إلى تردي الأوضاع بغزة في إثر سلسلة أزمات اقتصادية مر بها عصفت بمناحي الحياة، وأبرزها الحصار وعدم انتظام صرف رواتب موظفي السلطة البالغ عددهم قرابة 70 ألفًا.
وأضاف بكر الذي يصطاد الأسماك ويتاجر فيها أيضًا: في الفترات الماضية سمحت البحرية الإسرائيلية للصيادين بالإبحار 15 ميلًا لكن فعليًّا لا نجد الأسماك بالكميات المطلوبة في هذه المساحات، متهمًا إياها بالتسبب في تطفيش الأسماك وقتلها من خلال قنابل تفجير تلقيها في الأعماق.
انتهاكات متعددة
بدوره، أكد نقيب الصيادين نزار عياش، أن بحرية الاحتلال ترتكب عدة انتهاكات بحق الصيادين الفلسطينيين بغزة، وأبرزها تقليص المساحات المخصصة للصيد، وملاحقة الصيادين وإطلاق النيران المتكرر، وازاحتهم عن مراكز عملهم واعتقالهم، ومنع دخول جميع مستلزمات الصيد عبر المعابر التي تسيطر عليها (إسرائيل).
وبين عياش في تصريح لـ"فلسطين"، أن الاحتلال يحتجز قرابة 30 قارب صيد صادرها من بحر غزة، وقرابة 63 محركًا منذ سنوات، فيما بلغ عدد الصيادين المصابين بنيران الاحتلال منذ بداية الحالي، 10 صيادين، بينما اعتقل 14 آخرين، في حين وصل عدد المعتقلين من الصيادين في السنوات الماضية إلى المئات. وفي العادة تفرج سلطات الاحتلال عنهم بعد ساعات أو في الأيام التالية.
وذكر أن النقابة توثق انتهاكات الصيادين باستمرار، وتخاطب بها مؤسسات حقوقية محلية ودولية منها الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
من جهته، أكد مسؤول لجان الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعي زكريا بكر، أن شهر فبراير/ شباط الماضي، شهد الرقم الأعلى في التلاعب بالمساحات البحرية خلال 2020، ما بين توسيع وتضييق وإغلاق، مشددًا على أن انتهاكات الاحتلال لم تتوقف يومًا في بحر غزة.
وينعكس التلاعب بالمساحات البحرية وتقليصها سلبًا على الصيادين، ويؤدي إلى خسارتهم شباك الصيد، وهذا يتزامن مع الاعتداء عليهم بضخ المياه وعمليات الاعتقال ومصادرة القوارب، الأمر الذي يجعل الحماية الدولية حق أساسي للصيادين ينسجم مع القانون الدولي الذي يسمح للصيادين الإبحار لمسافة أميال عديدة في البحر، حسبما أضاف بكر لـ"فلسطين".
ومنح اتفاق (أوسلو) الموقع بين منظمة التحرير والاحتلال في سبتمبر/ أيلول 1993، الصيادين الفلسطينيين إمكان الإبحار مسافة 20 ميلاً في بحر غزة؛ لكن الاحتلال منذ سنوات طويلة يمنعهم من الوصول لهذه المسافات ويسيطر بشكل كامل على البحر.