فلسطين أون لاين

جدتي.. أهزوجةُ الماضي الجميل

...
سجى حمدان

لازالت جدتي.. منبع الحكايات والمعاني التي لم تكتب عنها الكتب أو تشرح عنها القواميس، فتجاعيد وجنتيها التي قاربت شكل خريطة ما هي إلا توثيق حيّ لحقبة زمنية كاملة؛ فجدتي تكبر الاحتلال باثنين وعشرين عاما، أي أن منافساتها في هذا المجال هن أشجار الزيتون لا غير..

تمشي جدتي وهي تتكئ على عكاز التسعين وقد احدودب ظهرها بعد أن كانت تقف شامخة والكحل قد بلغ من العينين ما بلغ، وكلما سألتها عن معنى اسمها "هدباء" تجيب أي طويلة الرموش وسيعة العينين، وتؤكد أن الاسم قد بلغ نصيبه منها، وتذكرني بأنهن ثلاثُ أخوات "هدبة" و"هادية" و"صَبحة" أي حظيت قسماً من جمال الصباح، وليس لي إلا أن أبديَ الإعجاب أن كيف لأبيها أن يختار نفس القافية لبناته الثلاثة.

كان لجدتي شعرٌ طويل و"خيّاليّ" أي يشابه بكثافته ونعومته شعر الخيل، وعندما أسألها إلى أين قد يصل شعرها مثلاً، تشيرُ لي بيدها إلى ما فوق الركبة فلا تستطيع مشطه ولا تجديله إلا واقفةً، وما إن جلست نزلَ منها على الأرض واتسخ!

كلما انتقدتها كيف تحتمل ارتداء الثوب الفلسطيني المطرز ونحن في منتصف الصيف تغير الموضوع وتركض بي إلى وقت "أَجْوَزَتْ" أي أصبحت فتاة في سن الزواج وكان لا بد أن تبدأ بتجهيزاتها قبل قدوم "النصيب" فطرزت اثني عشر ثوباً وحدها، وقد كانت الأثواب تختلف حسب المقام والمناسبة، ذلك أنَّ ثوب المناسبة والأفراح يختلف عن ثوب العمل و"الحصيدة"، فالأول مكتظٌ بالتطريز من أوله لآخره لا تمشي به إلا أميرة ولا يكون لجسدها إلا أن يقف شامخاً، أما وأنَّ الحصيدة قد حانت فليس لها إلا الثوب الثاني حيث التطريز خفيف لا يكون إلا عند فتحة الرقبة وأسفل الثوب، ورغم أني أعتبره أيضاً منهكاً خلال العمل تحت أشعة الشمس إلا أن جدتي قد كانت تفرُّ فيه مثل "الغزالة" وهي تحصد ما زرعه رجال القرية في الشتاء.

وتعتقد جدتي أن في مياه "الجورة" غرباً العلاج لكل داء وهي التي شهدت على نساء القرية اللاتي لم يستطعن الإنجاب التطبب بها فيُشفين، ولا زالت تقول لي إن سوق الأربعاء في أسدود "له طعمه" الذي يختلف عن سوق الجمعة في المجدل رغم أنها تعترف أن بضاعة المجدل كان لا يعلى عليها وسوقها أكبر ولا يشترون "كسوة العروس" إلا منه.

لا زالت جدتي تفخر أن جدي فضلها على بنات قريته "عبدس" واختار خطبتها رغم أنها كانت سمراء و"السمرا لهلوبة السمرا لهلوبة

بقدرة من الله البيضا مرغوبة"

وتصف جَدِّي قائلة:" كان يباي محلاه، طويل وأشقر، يقول يا أرض اشتدي ما حدا قدي"، فيَعقد قرانهما الشيخ "حسين أبوسردانة" من الفالوجة بعدما استدعوه إلى السوافير حيثُ أهل العروس، وذبحوا خروفاً إكراماً لمجيئه.

دوماً ما تلتفُ جدتي بالكلامِ لتصل حَدثَ حياتها "العرس"، وهذا بعدما قضت أخوات العريس ليلةَ الحنة بالمبيت عندها وقد أحضروا الحناء وخروفين هدية ليكون هذا يوم الذبح الأعظم فتمرُّ الليلة بين الأكل والحناء والغناء..

"يوي يا هذي بنت مين وبنت مين

يوي يا هذي بنت أبو طه ذباح السمين

يوي وهذي بنت أبو طه

بمد المناسف على الشمال واليمين"

أما وقد جاءت "الفاردة" وهو موكبٌّ من أهل العريس يأتون لأخذ العروس من بلدها يوم العرس، فتتشبث بها صديقاتها ورفيقات دربها:

"رفيقتنا هدبه يا روح الروح

يا ريتنا ودعناكي قبل ما نروح"

تقول ستي وقد تحشرج صوتها وبدأت بالبكاء كأن رفيقاتها يودعنها الآن إلى بيت الزوجية كما فعلن قبل نيِّف وسبعين سنة!

تنطلق الهواوي والزغاريد من "الفاردة"، وجدتي تُزّفُ على الجمل من بلدة السوافير إلى قرية عبدس وقد ارتدت بدلة العرس المعتمدة "الأطلس" والتي يحضرون قماشها من سوق المجدل ثم يخيطها "محمود الحتو" من غزة.

"يا ريتك مباركة علينا يا زينة.. علينا يا زينة

وتبكري بالصبي والصبي للعيلة.. والصبي للعيلة"

ورغم أني انتقدت عليها لِمَ كانوا يختصون الصبي بالغناء ويرغبون بقدومه، إلا أن جدتي تُدافع بأن هذه أغنياتٌ ليس إلا وأن فرحتها بمولودتها الأولى "نظيرة" كانت تضاهي الفرحة بألف صبي.

وتؤكد جدتي أن أراضي عبدس كانت أكثر خصوبةً من تلك الموجودة في السوافير وبالتالي العمل فيها أشقُّ وأكثر، فتبدأ الحراثة بالتزامن مع أول "مطرة" ثم زرع البذور فينمو مع قدوم الشتاء وتكون " السبلة مدروجة قمح وطولها هالطول" وتشير بالسبابة إلى ما بعد الرسغ في اليد الأخرى، وتكون مرحلة التخزين في "الجُرُن" وهو غرفة من الطين يضعون بها القمح، فكلما نفذ الخبز أخذو جزءاً منه إلى "بابور الطحين" لطحنه ثم خبزه.

أما كرم العنب فكان العمود الفقري لاقتصاد القرية عندما يحمله الشباب على الجمل في موسم قطافه متجهين إلى القدس، وتجد جدتي الفرصةَ مواتيةً لتشهدَ أنَّ جدي كان أمهر شباب القرية في التجارة بعدما يشحنه فلا يعود مساءً إلا وقد باعه بأعلى سعر..

أقطع عليها الحديثَ منتقدةً كل هذا العمل؛ ألا توجد أيامٌ للاستراحة والتنزه مثلاً؟ فتنقم عليَّ هذا مستهجنةً "كيف فش مشاوير؟" وعلى ما يبدو أن "طشة" ستي إلى أخوالها في بيت داراس تضاهي فرحة أحدنا إذا ما سافر للاستجمام في جزر هواي!

تجدني غير مقتنعة فتعود بي إلى السوافير مُحدِّثةً عن سعادتها وبنات حمولتها وقد حلّقنَ حول "لمبة الكاز" وفي يد كل واحدة منهن "قماشتها وإبرة تطريزها"، التي هي بمعايير جيلي ضربٌ من الأعمال الشاقة.

يظل حديث جدتي ربيعياً حتى تَصلُ الهجرة والاحتلال ليسدل الحزن شباكه على وجهها وتتبدل الصورة ستاراً أسود، فيتلاشى الربيع ويبدأُ خريف المعاناة الطويل!

WhatsApp Image 2020-08-12 at 8.47.21 PM.jpeg