فلسطين أون لاين

على "كفِّ جرافة".. انتصار تزف تخرّجها وشقاءَ والدها!

...
الطالبة الخريجة "البطش" خلال زفة تخرجها
غزة- محمد المنيراوي

في موكبٍ أشبه بموكبِ زفافٍ يحفّه الفرحُ والزغاريد، انطلقت سيارات عدة مبتهجة، تتوسّطها "جرافةٌ" ضخمة، من أمام بيتها في حي التفاح شرق مدينة غزة إلى الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية جنوبًا؛ إيذانًا ببدء مراسم التخرج منها.

الطالبة انتصار البطش (22 عامًا)، الابنةُ البِكْرُ لأُسرةٍ من 11 فردًا، كانت الفرحة الأولى لوالدها "الكادح" الذي وعدها مازحًا بأن تكون زفّة تخرجها عبر "جرافته" التي يعمل عليها سائقًا بوزارة الأشغال العامة والإسكان.

ذلك الوعد الذي أخذه والدها على عاتقه قبل عامين، ظل عالقًا في سماءِ أحلامها، ولم يمر مرور الكرام، بل اجتهدت وأنجزت عامها الدراسي الأخير في تخصص الإعلام وتكنولوجيا الاتصال بالكلية الجامعية، وجاءت له للإيفاء بما وعد.

لم تجد انتصار وسيلةً أكثر وفاءً لعطاء والدها من الاحتفال عبر "جرافته"، قائلةً لصحيفة "فلسطين"، وعيونها تلمع بالفخر: "أردت التعبير عن جزيل شكري واعتزازي وامتناني بمهنة أبي الكادح الذي لطالما دعمني ماديًّا ومعنويًّا، وأفنى سنين عمره من أجلنا".

وضعت راحة يدها على قلبها؛ ممنونةً، وهي تمتدح أسرتها وعائِلَتَيْ والديها، الذين كانوا إلى جانبها في فرحتها بتخرجها: "جميعهم كانوا بجانبي، وكانوا سندًا لي، ولم أشعر يومًا أنني وحدي".

تعود بذاكرتها إلى الحلم الذي تحقق، حينما ذهبت إلى والدها قبل موعد التخرج بشهرين لتذكّره بوعده بـ"زفّة الجرافة"، إلا أنه بدا مترددًا؛ خشيةَ تعليقات الناس السلبية على فلذة كبده، فهو يعلم أن فكرةً مجنونةً كهذه ستُقابل بردود فعل متباينة.

"جرافتنا" خرّيجة!

مع إصرارها وتقبّلها للنتيجة مهما كانت، وافق "حينما علم أن هذا الأمر سيُسعدُني، فليست هذه المرة الأولى ولا الأخيرة التي أركب فيها الجرافة، فبيننا علاقة صداقة قديمة، حيث ركبتها من قبل حينما كان يذهب لعمله، وأرافقه إلى هناك".

والدها "الكادح" كما تحب وصفه، فخورٌ بـ"بِكْره" على خمسة أبناء وثلاث بنات، أمام زملائه، فهو -كما هي- يحب المغامرة، ويصطحبها منذ صغرها معه إلى الأماكن العامة، ويجوبان شوارع غزة بـ"الجرافة" وهي إلى جانبه.

على وجه السرعة، ويوم زفة التخرج، جاء والدها بـ"الجرافة" التي يعمل سائقًا لها منذ عام 2008، ليزفها وهي إلى جانبه كالمعتاد، إلا أنها أبت إلا أن تجلس في "كفّتها"، فلاقت فكرتها استحسان عائلتها، فسارع شقيقها عدنان ووالده في تحضير الزينة والبلالين، وما كان من خالها عثمان إلا أن أحضر "أريكةً" من عند جدّتها وزيّنها ووضعها في كفة "الجرافة" كـ"لوجِ" فرح، تجلس عليها مع كامل أناقتها بثوب التخرج الجامعي، وعلى جانبيها يقف أعمامها "السند والعزوة"، وأطفال يحملون بطاقات مكتوبا عليها وسم: "جرّافتنا خريجة!".

على أنغامِ أغاني النجاح والتفوق التي كانت تصدح بها سيارة إذاعة رافقت موكب الفرح، ساروا إلى الكلية الجامعية؛ تعبيرًا عن امتنانها لصرحٍ علميٍّ وأساتذةٍ كانوا لها داعمين في حياتها العلمية والعملية التي بدأت منذ سن مبكرة.

"سيبويه غزة"

الطالبة انتصار تربطها علاقة طيبة مع كل مع يعمل في الجامعة، أكاديميين وإداريين وأذنة، ويعتبرونها شخصيةً مرِحةً وناشرةً للإيجابية؛ كونها تتحدث معهم طيلة سنين الدراسة الجامعية باللغة العربية الفصحى، حتى أن البعض أطلق عليها وصفَ "سيبويه غزة".

تُرجع سبب التسمية تلك، إلى أنها تتحدث الفصحى منذ 11 عامًا، في حياتها اليومية مع أهلها والناس على اختلاف طبقاتهم.

ولم تُخفِ انتصار فَخرَها المتواصل بـ"ثقةِ أبيها" الذي منحها "تصريحًا مفتوحًا" للخروج من البيت للتعلم والالتحاق بالدورات المهنية والتعليمية، وصقل مواهبها ومهاراتها، ومواجهة المجتمع منذ الصغر للتكيّف مع طبيعته.

فمنذ الفصل الدراسي الأول لها في الجامعة، التحقت انتصار بالعمل في مجال التسويق الالكتروني والدعاية، عن رغبةٍ وشغف، وعملت في هذا المجال مع الكثير من المؤسسات المحلية والدولية.

نصائحُ عدة أخذتها انتصار على محمل الجد، مضمونها أن صقل المهارات يكون بالتوازي مع الدراسة الجامعية، "فلم أكن أنتظر حتى أُنهي دراستي ومن ثم التوجه للتدريب وصقل الخبرات، كنتُ أعمل بهذه النصائح من الفصل الدراسي الأول"، هكذا تقول.

انطباعاتُ الناس

احتفالُ انتصار بطريقتها أظهر تباينًا في تعاطي الناس معها، فبينما فرح الكثيرون لفعلتها وكالوا إليها السلامات والتبريكات، كان هناك البعض الآخر يستنكر الفكرة خاصة أنها صدرت عن فتاة.

تُعلق على ذلك بالقول: "أعلم أنني سأواجه الكثير من التعليقات السلبية وأهلي نبهوني لذلك، فلكلٍّ رأيه وأحترمه، وأعتقد أنني أثّرت بشكل إيجابي على فئات كثيرة من الناس، أما من رآه شيئًا غريبًا ومُستنكرًا، لم يعرفوا ما وراء هذه الطريقة من الاحتفال، أو الهدف، فلم يكن هدفي "الشو الإعلامي" أو فعل أمرٍ غير محسوب، بل أردت إيصال رسالةٍ ساميةٍ أعبر فيها عن تقديري وامتناني لوالدي".

تضيف: "شعوري برؤية الفرحة في عيون المحبين كان أكبر وأعظم من أن أرى البؤس في عيون الآخرين".