قائمة الموقع

غزة التي أضافتْ لـ"خيري حاتم" "روحًا جديدة"

2020-08-11T12:41:00+03:00
فهرس.jpg
فلسطين أون لاين


صدى صوت الجمهور المتفاعل مع كلماته ظل مدويًا على خشبة المسرح، لم تعد مقاعد الجماهير فارغة في مدرجات ملعب اليرموك بمدينة غزة، في حضور صوته الجبلي شدت الأبصار إليه، لم تمنعها زخات المطر من مغادرة الملعب، فوقه السماء ملبدة بالغيوم، هرول صديقه نحوه واضعًا سترته فوق رأسه ليحجب زخات المطر عنه، ليواصل الصوت الجبلي هز أركان الملعب، وهو ينشد لغزة، وفلسطين، والقدس، وكأن الفنان الفلسطيني خيري حاتم كان ينشد بقلبه.

ثمانية أيام عاش حاتم فيها أروع لحظات عمره، منذ أن وطئت قدماه تراب غزة، مواقف كثيرة لا ينساها، يمني النفس أن يعود  الزمن به للوراء، كي يحياها، "مرتين وعشرة"، لا ينسى "الشطة" التي وضعها صديقه في طعامه مؤكدًا أنها "لا تحرق اللسان"، واللفظ الغريب للكلمات بتشديد "الياء" في آخرها، تلك اللهجة التي طالما أضحكته، في جلسات مسائية بغزة المحاصرة.

"أهلًا وسهلًا بالفنان خيري حاتم" يتذكر ما حدث وقتها بعد تلك المناداة المفاجئة له من جهاز الإذاعة في حفل عرس بغزة، فبدلًا من الذهاب للمباركة صعد إلى خشبة المسرح وأنشد وصلة شعبية غير مخطط لها، حتى إنه فوجئ بتفاعل الجماهير معها.

يتميز خيري حاتم بصوت جبلي مكنه من الإنشاد بأكثر من لون، وهو لاجئ فلسطيني من قرية عربة قضاء جنين، عانى مرارة اللجوء ككل الفلسطينيين في الشتات، وتنقل من بلد إلى آخر، لكنه حمل القضية في صوته، يدندن بألحان القضية في محافل عربية ودولية.

يعيش حاليًّا في كندا، ومن هناك يرسل برسائل شوقه وارتباطه بقضيته، فصوته لا يمل العمل، وأرشيفه يزخر بمئات الأناشيد، ولديه ستة أطفال (ثلاث بنات وثلاثة ذكور) وهم: حاتم، وأحمد، وكريم، ومريم، ودعاء، وجيلان.

"كان حلمًا عظيمًا أن أزور فلسطين، وأقبل ترابها" ... "فحينما دخلت من بوابة معبر رفح البري، سجدت مقبلًا تراب غزة، وحملته بين يدي؛ أقبله مثل شوق أم لاحتضان طفلها، أو شوق سجين لحريته، لكنه كان شوق المغترب إلى وطنه، رغم مرور السنين، وكل هذا البعد والفراق، كانت لحظة غلبتني فيها عيناي" تلك اللحظات التي لم تفارق ذاكرة الفنان حاتم منذ لحظة قدومه إلى أرض غزة، ظلت حاضرة حتى في حديثه مع صحيفة "فلسطين".

ذكريات كثيرة

ما الشيء الذي تركته غزة في قلب خيري حاتم؟، يبتسم صوته القادم من بعيد عبر سماعة الهاتف، مطلقًا ضحكة خفيفة بصوته الدافئ: "لقد تركت فيها قلبي"، ويواصل الرد: "الذي تركته غزة في قلبي ولمسته في شعبنا العظيم المؤمن حق الإيمان بالله، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، والذكريات كثيرة في غزة خلال الأيام الثمانية التي قضيتها مع أحبابي هناك، لا أريد أن أنسى أحدًا، من شوارع غزة، والشجاعية، ورفح، وحفل ملعب "اليرموك"، وبيت لاهيا".

لم تكن صور الدمار الذي خلفه الاحتلال حدثًا عابرًا، بل تركت، وما فعله الحصار بغزة، وقعًا مؤلمًا على قلبه.

ومن الألم إلى جمال البحر، لم يكن ذاك اليوم عابرًا، حينما شاهد أمواج بحر غزة تتلألأ مع انعكاس الشمس عليها، صوت الموج، والمواطنون الذين ينتزعون فسحة فرح من أنياب الحصار، وبيوت اللاجئين في غزة، وأشجار ومزارع "بيت لاهيا"، كلها لا ينساها حاتم.

أضافت الزيارة له "روحًا جديدة"، وصار "أكثر شجاعة وقوة وإصرارًا واستبشارًا بقرب النصر، إجابته لم تنته هنا: "غزة تمثل للفن الإسلامي المكان الذي يشحن منه المنشدون أفكارهم وهممهم".

يجبره الكلام على إخراج ضحكة هادئة متزنة: "العشرات من المنشدين والأصدقاء يغبطونني على زيارتي إلى القطاع".

ما زالت تلك الزيارة عالقة في ذاكرته: "حينما دخلت غزة ونظرت لها, شعرت بسعادة كبيرة, وعندما لمست ترابها شعرت بنشوة الفرح, فقد أنشدت الكثير لها ولأهلها، وما زلت أتمنى زيارتها مرة أخرى كي أصدر مزيدًا من الأناشيد".

وكأن شخصًا خلف مذياع يحدثك، الغريب أن هذا هو صوته الطبيعي، تحط رحال ذكرياته عند مهرجان مخيم اليرموك حينما قدم غزة عام 2011م: "أذكر في مهرجان "اليرموك"، عندما سقانا الله من خيره من الماء، وبدأت زخات المطر تتساقط، كان موقف صديقي إبراهيم مسلم لا ينسى، وقتها رفع سترته، وغطاني، ولهذا وقع خاص في قلبي".

بقي موقف من تلك الزيارة: "تشرفت بدعوة من رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس إسماعيل هنية، وكانت في بيته، وكان وقعها رائعًا"، والجميل أنه أبدى إعجابه بأناشيد خيري حاتم، ومنها "غربة ما بدي غربة ... بدي أروح على بلادي".

هل استطاع الفن الملتزم منافسة غيره من الفنون؟، "لا شك؛ استطاع نوعًا ما المنافسة" يرد حاتم على السؤال، وبرأيه ساهم الفن الملتزم في الحد من ملل الناس من "المواضيع التافهة" في النوع الآخر من الفن، وفي زيادة انتشار الكلمة والصوت الملتزمين.

لكنه يطالب بوجود داعمين حقيقيين لهذا الفن الراقي، يقول: "إن صدق كلمات الفن الملتزم وجودة اللحن دفعا الناس لسماعه، حتى بعض الفنانين تركوا أنواع الموسيقا الأخرى واتجهوا لهذا الفن، حين لمسوا الفرق في المواضيع والكلمات الصادقة".

 

تفاعل خارجي

هل هناك تفاعل من الناس في الخارج مع الفن الفلسطيني؟، يرى حاتم أن التفاعل عظيم جدًّا، ويدلل: "فألمس دائمًا خلال مشاركاتي الخارجية أن قضية القدس وفلسطين ما زالت هي هم كل مسلم وعربي، لأنها قضية عالمية وإسلامية، وحين أكون ببلاد الغربة أشاهد الحضور من جميع الجنسيات، يكون مشدودًا تجاهنا جدًّا".

يرتدي الكوفية الفلسطينية، وعباءة بيضاء، كانت تخرج تلك الكلمات بإحساس غير عادي من صاحب الصوت الجبلي: "نحلف والله يا بلادي مهما غبنا ما نسينا .. صوتك لما بنادي ع حدودك بتلاقينا .. بحروف اسمك نتغنى بداوية ومعنَا .. ع زيتونك يا جنة محفورة أسامينا".

في تفاصيل هذه الأنشودة وقع خاص على قلبه، ينشد فيها لكل شيء يحبه: "يا بلادي يا بلادي يا بلادي .. ما نسينا المرج الأخضر وأشجار الحور العالي .. طيرك يلي بيتمختر فوق غصون الدوالي".

يفرد كفيه غارقًا في إحساسه، في ملامحه كلام كثير كطائر ينشد للحرية: "وصوت الحصاد الأسمر ياما ردد موالي .. ويجاوبني عتابا ويا محلى أغانينا   .. نحلف والله يا بلادي مهما غبنا ما نسينا .. صوتك لما بنادي ع حدودك بتلاقينا".


بين تلك الحقول والأشجار تحت سقف السماء يرد ذاك اللحن في (فيديو كليب) له:

ياما سهرنا وغنينا ندبك جفرا ع ترابك

نشبك إيدك بإيدينا نرسم فرحة بعتابك

وبطلة شمسك عدينا دقينا فوق بوابك

قومي طلي بعيونك وإحنا بنزرع شوفينا


أنشد مئات الألحان، إلا أن الكلمات السابقة التي تتضمنها أنشودة تحمل اسم "ما ننسى" تركت بصمتها في قلبه لأسباب، منها أن جمهوره عرفه منها، وأيضًا ما فيها من معان رائعة في محبة فلسطين، وكذلك أغنية تعبر عن ألم البعد والغربة عن الوطن اسمها "دمع الشوق".

تغافله ابتسامة هنا لموقف طريف واجهه في هذا العمل الفني: "كثيرة هي المواقف المتنوعة خلف الكواليس، ولكن يحضرني موقف مضحك حصل معي في أثناء تصوير (كليب) أغنية "ما ننسى" مع الحصان الذي كان معي؛ فقد كنت أحاول ترويضه بإطعامه حبة من البندورة وضعتها في فمه فعصرها في وجهي، وكان الأمر مضحكًا لي ولفريق التصوير".

أول عمل أنتجه الفنان خيري حاتم كان مع فرقة اليرموك بعنوان "بلغ سلامي"، به أنشودتان: الأولى "الصرخة" والثانية "حق العودة" في عام 2005م.

وفي نظر حاتم، للفن دور كبير في تعزيز حب الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه، وأن الأنشودة الفلسطينية صاحبت الثورة والثوار، و"أن كل فنان فلسطيني يجب أن ينشر بفنه للعالم تراث فلسطين الغالي: (ميجانا، وعتابا، ودلعونا، وظريف الطول، والشروقي، وجفرا، وكل أنواع التراث بمعانيه التي تحمل الحب للمقاومة والزيتونة، والتين، وتراب الوطن، حتى يعرف القاصي والداني أن فلسطين أرض الحضارة والعراقة والأصول القديمة".

ويوجد في مكتبة حاتم أعمال فنية كثيرة يريد إنتاجها، لكن "غياب الداعمين" يحول دون ذلك.

مع إشراق الشمس على عائلة "حاتم"، وتغريد العصافير، يرتشف المنشد فنجان قهوة، ويجلس بين الزهور في شرفة منزله، مبتعدًا عن ضجيج الحياة بين هذه المساحة الخضراء الصغيرة، وأقوى شيء يقوم به لتمرين صوته على الإنشاد هو تلاوته القرآن الكريم.

اخبار ذات صلة