في نهاية عام 1926 أرسلت صحيفة يونانية الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكي -صاحب رواية زوربا ذائعة الصيت- إلى فلسطين لتغطية أعياد عيد الفصح، فظهرت مشاهداته متسلسلة على صفحات الصحيفة، ثم ظهرت في عام 1927 في كتابه "ترحال" الذي اشتمل على رحلاته إلى فلسطين ومصر وإيطاليا وقبرص، وقد قامت مؤسسة ابن خلدون في عمّان باقتطاع الصفحات الخاصة برحلة فلسطين وترجمتها إلى العربية تحت اسم "رحلة إلى فلسطين".
وقد أصبحت هذه الرحلة مثار جدل بين القرّاء العرب إلى يومنا هذا؛ فمنهم من يعدها أخطر وثيقة ضد الصهيونية كتبها روائي ومفكر عالمي مطلع القرن العشرين، كما كتب الناشر على غلاف الترجمة العربية، ومنهم من لم يخل جانب كازانتزاكي من التعاطف مع الصهيونية مثلما فعل الباحث خالد بشير في مقال له نشر مؤخرًا على موقع "باب الواد" الفلسطيني تحت عنوان "زوربا في القدس: رحلة كازانتزاكي إلى فلسطين".
فيرى مترجما الكتاب (منية سمارة ومحمد الظاهر) أن كازانتزاكي في هذه الرحلة أدان الصهيونية "قبل أن ينتبه العالم إلى الخطر الصهيوني، وإلى الكوارث التي ستقع على العالم أجمع نتيجة لهذه الحركة"، وأنّ هذه الرحلة عبارة عن نبوءة وإشارة للخطر القادم التي أكدت الوقائع اللاحقة صدقها، وأنّ هذه المشاهدات "اشتملت على أفكار ذات نظرة ثاقبة وعميقة للتاريخ".
وقد اكتسبت هذه المشاهدات قيمتها عندهما من خلال الأحكام والتنبؤات التي أطلقها كازانتزاكي في الفصل الأخير من الرحلة أثناء حواره مع الفتاة الصهيونية؛ فهو يحكم على الحركة الصهيونية بأنها منافية ومناقضة للمصالح العليا للجنس اليهودي.
ويحكم على اليهود من خلال مخاطبته الفتاة: "الشتات هو وطنكم، لا جدوى من الهرب من قدركم، والبحث عن السعادة والأمن، في هذا البلد النائي. آمل -لأني أحب اليهود- أن يتمكن العرب، عاجلاً أو آجلاً من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم".
بينما يرى خالد بشير أن كازنتزاكي لا يختلف كثيراً عن الرحّالة الأوروبيين المستشرقين في النظر إلى الشرق باعتباره فضاءً يزدحم فيه كلّ ما هو سحري وعجائبيّ وروحانيّ، وأن هذه الروحانية تقود إلى الصهيونية، وقد أجهد الباحث نفسه بربط كل مشاهدات الكاتب وحواراته بالصهيونية انطلاقًا من أنّ النزعة الإيمانية المسيحية عنده جعلته يتقبّل الأفكار الصهيونية؛ فأصبح أي تعاطف مع إيمان اليهود ومعتقداتهم هو بالضرورة دفاع عن الصهيونية وتعاطف معها، وذلك على الرغم من وضوح تعاطف كازانتزاكي مع فكرة الإيمان في الأديان جميعها.
ويرى بشير أيضًا أن منظور كازانتزاكي إلى أرض فلسطين يتفق مع المنظور الاستعماري الذي يصوّر أرض فلسطين بأنها صحراء جرداء مهملة، لكن الباحث يعود عن رأيه بالاعتراف بأن نظرة الكاتب في الرحلة تختلف قليلاً عن نظرة الاستعمار بتأكيده على الوجود الفلسطيني في المراكز الحضارية والزراعية.
وهذا موقف بحاجة إلى مراجعة؛ فبالرجوع إلى نص الرحلة سنجد أنّ الكاتب كان صادقًا في وصفه، فحينما مر من الصحراء وصفها كما هي بسكونها وخلوها من البشر، وحين زار المدن الحضارية والأرياف وصفها بالحركة والناس اللذين يعمرانها.
لكن بشير يستند إلى فقرة تكاد تكون حاسمة في عملية اتخاذ موقف من الرحلة، إذ يقول كازنتزاكي: "لكنّ نفَساً جديداً يتبلور، فالروح اليهودية القديمة تهب مرة أخرى، فوق سهول وأودية فلسطين المقفرة.
لقد عاد اليهود، ليحرثوا الأرض، ويشقّوا أقنية الماء، ويزرعوا، ويبنوا، إنهم يحاربون بطريقةٍ نبيلة، يستثمرون الأرض، كي يتمكنوا من التغلّب عليها وقهرها. إنّهم يحاربون كي يعيدوا النور، والمتعة، والبهجة إلى بلادهم المتروكة والمهجورة".
إنّ هذا التناقض في الآراء فيما يخص القضايا ذات الصلة بالعرب وقضيتهم الأساسية تحديدًا (فلسطين) يكاد يكون تيمة عامة عند المثقفين العرب، إذ يتعاملون مع الآخر كأنه عربي ويطالبونه بمواقف قائمة على هذا الافتراض.
وقبل أن نبحث عن موقع لصاحب رواية زوربا بين الصهيونية وضدها، يتوجب علينا البحث عن إجابة لعدد من الأسئلة التي يُفترض أن نواجه أنفسنا بها قبل أن نوجّه أصابع الاتهام لكتّاب وروائيين قادمين من دول تبعد عنا آلاف الأميال وغالبًا ما يجهلون ثقافتنا وتاريخنا وقد لا يعلمون شيئًا عن قضايانا.
فما الذي نريده من الآخر؟ لماذا نطالب كاتباً من اليونان أو اليابان أن يتخذ موقفا سلبياً من (إسرائيل)؟ أليس من واجبنا أن نسأل أولاً عن مواقف المثقفين العرب الذين يتفاخرون بعلاقاتهم وزياراتهم للكيان الصهيوني؟ أما الآخر فنتركه لنفسه ولقناعاته دون أن نتخذ منها موقفا إلا إذا اتخذ هو منا موقفا معاديا.
ولكن السؤال المر يبقى: ماذا فعلنا لنكسب تعاطف الآخر إن كان موقفه مهماً هكذا؟
لنتذكر مرارة حديث مترجمة إيطالية -على سبيل المثال- عن تجوالها بين السفارات العربية في روما حتى تحصل على دعم ترجمة كتب عربية إلى الإيطالية دون أن تحظى بشرف مقابلة أي سفير ودون أن تنال أي دعم! ولو وضعنا ذلك في مقابل حركة الترجمة الهائلة في الكيان الصهيوني من وإلى العبرية سنجد أنه كان يفترض بنا أن نقوم بأعمال أخرى كثيرة بدلاً من مطالبة الآخر أن يخوض حربنا نيابة عنا.
ولقد كان نيكوس كازانتزاكي في كل كتاباته صوفيًا صوفية غير قائمة على الارتباط بتعاليم دين محدد، بل كان محبًا لكل الأديان خاصة الشرقية منها، ونظرته إلى الشرق هي نظرة حالمة لكنها منفصلة عن الاستعمار والاستشراق ومرتبطة بنزعته الصوفية.
وعلى هذا الأساس بنى موقفه المتعاطف مع اليهود بوصفهم شعب الشتات، والمناهض للصهيونية بوصفها المهدد لميزة الشتات.
كما أنه وصف الحركة والناس والأماكن التي رآها في فلسطين مثلما فعل الكثير من الرحالة الذين زاروا فلسطين وكتبوا مشاهداتهم عن الناس والحياة، وبالتالي لا أهمية كبيرة تعوّل على مشاهدات كازنتزاكي بوصفها دليلاً على وجود العرب في فلسطين قبل قدوم الصهاينة وأنها لم تكن أرضًا خالية من البشر.
وذلك لعدة أسباب أبرزها: أنّ الدول الاستعمارية التي قررت إقامة الكيان الصهيوني لم تصدر قرارها بناءً على توهم عدم وجود حياة على أرض فلسطين، فقد قامت هذه الدول بدراسة الأرض والإنسان على هذه الأرض عبر سنوات طويلة وتعرف كل شبر فيها.
كما أنها استعمرت هذه الأرض قبل الصهاينة وتعرف كل تفاصيل الحياة القائمة فيها، وتقارير الرحلات التي قام بها ضباط المخابرات الإنجليز والغرب عامةً تشهد على ذلك. كما أنّ محاولة إقناع أنفسنا بأننا كنّا موجودين على أرضنا، وهي المعلومة التي نعرفها جميعًا، هي محاولة بائسة.
إنّ الفائدة من مثل هذه المشاهدات التي قام بها كازانتزاكي تكمن في مخاطبة الآخر داخل الكيان الصهيوني وفي محاولة تفكيك سرديته وإقناعه بالخصال التي فقدها بعد أن تخلّى عن ميزة الشتات.
وهذا يتطلّب وجود جهاز إعلامي عربي معد لمخاطبة اليهود بالعبرية داخل الكيان وخارجه، وذلك ضمن حرب إعلامية قد تؤتي أكلها في الآخر على غرار ما يفعل الصهاينة عبر إذاعاتهم وإعلامهم إذ يخاطبون العرب بشكل يومي، دون أن يكون لنا أي رد فعل رسمي.