قائمة الموقع

"علا مرشود" والسؤال الذي استغرق سبعة أشهر في "غربتها الثانية"

2020-08-09T10:33:00+03:00

- "معك المخابرات، بدنا علا لمقابلتنا".

- "إيش بدكم فيها؟!".

- "سؤال وحتروح، لا تقلق!".

علا مرشود (23 عامًا) التي كانت على أبواب تخرجها في الجامعة بنابلس، ذهبت مع عمها الذي تلقى المكالمة السابقة من مخابرات الاحتلال الإسرائيلي، إلى ما يسمى "معسكر حوارة" لاستجوابها.

بداخل غرفة التحقيق؛ مرت الساعات الثلاث الأولى بطيئة وكأنها ثلاثة أيام، تنتظر السؤال الذي لم يطرح بعد، ثم بدأ ضابط الاحتلال الذي نفث دخان سيجارته في أعلى سقف الغرفة يمهد لشيء لم تستعد له، أو بالأحرى لم تأت من أجله موجهًا كلامه لعمها: "بدها تضل عنا كم يوم".

عمها ينفعل غاضبًا: "ما بخليها عندكم ولا دقيقة".

- شو بدكم فيها؟!

الضابط يلقي ما في جعبته ويأتي من السطر الأخير: "هناك قرار باعتقالها".

علا التي عادت إلى مدينة نابلس قبل أربعة أعوام قادمة من السعودية بعد رحلة غربة طويلة مع عائلتها، ووقفت على أبواب التخرج في تخصص الصحافة والإعلام، لتكون عين الحقيقة ومرآة تظهر جرائم الاحتلال، أدركت أنها ستصبح الحدث والقصة هنا، وأنها على أعتاب "غربة ثانية" لكنها مجهولة المدة.

همست في أذن عمها: "روح خلص، كنا بواحد بلاش نصير باثنين"، ثم توجهت نحو مجندة السجن، وأنزلت يديها -يا للأسف!- خلف ظهرها، ووضعت المجندة القيود بيديها والعصبة السوداء على عينيها، انسلى النور عن ناظريها، تمشي إلى مكان لا تعرف وجهته، ومدة مكوثها فيه.

تتساقط كل رسائل الخوف على قلبها، خاشية أن يكون هناك حكم بالسجن، وأن يقيد جناحا حريتها خلف قضبان صغيرة كانت تسمع عنها وتقرأ عن عذاباتها، تحاول الخروج من تلك التساؤلات، تواسيها دموع تتسلل من أسفل العصبة على خدها، لتجد نفسها خلال سويعات في مركز تحقيق "بتاح تكفا" في 11 أذار (مارس) 2018م.

مصير مجهول

عبر سماعة الهاتف، كان صوتها وكأنه يخرج من قاع بئر، فـ"الأنفلونزا" أخذت من صوت علا مرشود، لكنها أصرت على مراجعة ذاكرتها، والدخول للسجن من هذه البوابة، ما زالت تروي لصحيفة "فلسطين" ما جرى: "أصابني انهيار عصبي في اليوم الأول، كنت خائفة من المجهول، ماذا سيحدث معي؟، فلم أتوقع اعتقالي، مكثت شهرًا في التحقيق بمفردي، لا أرى أحدًا أو يسمع أخباري أحد وأنا التي أدرس الإعلام ولا أترك خبرًا إلا وأعرف تفاصيله، واليوم أقف معزولة عن العالم وكأن الكرامة أصبحت بعيدة عني".

في أشهرها الثلاثة الأولى، حرمت علا "الكنتينا"، وزيارة العائلة والمحامي، لا يلبى احتياجاتها ولا تسمع صوت أمها، تمني النفس أن تسمعه مرة لتعيد الدفء المفقود إلى قلبها، ذلك الدفء الذي طالما أغدق عليه الحنان.

تفاصيل الشهر الأول في السجن عالقة في ذاكرتها، تنهيدتها هنا تروي وجعها: "أسوأ شيء كان التفيش العاري، حتى الحجاب أزالوا عنه المثبتات (دبابيس)، يضعونك في "بوسطة" (حافلة نقل الأسرى لجلسات المحاكمة) لا تزيد مساحتها على متر مربع، ثم يطلقون العنان للسماعات بإزعاجي طوال الطريق بالأغاني العبرية ويعلون صوتها إلى أعلى مستوياته".

طوال المسير، تحاول علا الخروج من الضجيج، فتضع يديها على أذنيها، لكن بلا فائدة؛ كان حجم الإزعاج "المقصود" كبيرًا، تستذكر بعضًا من تلك الأيام: "كنت الأسيرة الوحيدة من شمال الضفة الغربية، وزجني الاحتلال في سجن "هشارون"، وكانوا يأخذونني بالبوسطة إلى مركز توقيف الجلمة قرب جنين بالضفة الغربية، في إحدى المرات مكثت في مركز التوقيف خمسة أيام".

تأخذنا إلى تفاصيل زنازين سجن "الجلمة": "معروف أن تعامل السجانين فيه سيئ، وكنت أحاكم بمحكمة "سالم" العسكرية (...) وكانت زنزانة العزل انفرادية، دورة المياه مكشوفة ليس لها باب، الزنزانة بها كاميرات مراقبة، فرشة السرير بلاستيكية مليئة بالحشرات".

ترحل بصوتها إلى تلك اللحظات: "أمضيت خمسة أيام من شهر رمضان في سجن الجلمة، الأمر الصعب كذلك أنني كنت أنتظر رؤية أمي التي تعيش خارج فلسطين وقدمت لرؤيتي، لأول مرة بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال، وكانت أصعب جلسة محاكمة لم أحبس دمعتي أمام حضور أمي، كم وددت لو أستطيع كسر تلك القيود وأحتضنها، لكني احتضنت حزني بداخلي".

"كانت المجندات يجبرنني على خلع الحجاب داخل الزنزانة، كان ذلك يكفي لعدم الشعور بالأمان، الأمر الآخر أنك لا تستطيع الصلاة، وكنت أضع منشفة على رأسي للصلاة" تعرض بعضًا من منغصات الاحتلال لها.

فسحة فرح

خلال مدة أسرها، مرت مناسبات عدة على مرشود، أهمها عيدا الفطر والأضحى، كانت المسؤولية الملقاة على عاتقها كبيرة، ما زالت تلك اللحظات تسكن وجدانها: "لكوني أسيرة ستمضي سبعة شهور كنت أحاول جعلها مدة فرح في حياتي، حاولت فيها التخفيف عن الأسيرات ذوات الأحكام العالية، أحاول الفرح كما كنت بالخارج".

المتعارف في السجن بمناسبة يوم العيد أن الأسيرات يستيقظن باكرًا، مع أول فتحة لباب غرفة سجن الدامون الساعة الثامنة صباحًا، ترتدي الأسيرات ثيابًا جديدة احتفظن بها في آخر مرة سمح الاحتلال بإدخال ملابس من عائلاتهن، ثم يخرجن مع أول فورة (الخروج لساحة السجن) الساعة العاشرة صباحًا، ويكبرن وينشدن.

"فعليًّا مش دايمًا سلطات سجون الاحتلال تسمح لنا بالتجمع والتكبير"، ويستخدم الاحتلال أساليب عدة في ذلك تذكرها: "ما إن نكبر وننشد حتى يأتي الاحتلال لتفريقنا، في إحدى المرات جاء مدير السجن ذاته وفرقنا، ما زلت أذكر ما قاله لنا يومها: "ممنوع تتجمعوا، ممنوع تكبروا وتنشدوا"، معللًا: "لأنكم مش ماخدين إذن".

هذه إحدى الوسائل التي يحاول بها الاحتلال إطفاء أي مظاهر للسعادة داخل السجون، يتلذذ على صوت الدموع وبكاء الأسيرات، على كل شيء يجلب الحزن وينهش الفرح، ويظهر ضعف الشخص، فهو عامل نفسي مهم لدى الاحتلال في نشر الإحباط بداخل الأسرى.

لكن علا قررت تحدي الاحتلال، "نظمت فعالية ممتعة ومفيدة ممزوجة بالضحك؛ وأسميتها "العيد فرحة"، ثم أضفت نقطة لحرف الحاء" تقول، ولهذه قصة ترويها: "تمنت إحدى الأسيرات دجاجة محشوة، وطلبت ذلك من ممثلة الأسيرات في سجون الاحتلال، لكن لم نستطع تحقيق أمنيتها، لأن الاحتلال يدخل الدجاج مقطعًا".

أثر تلك الأجواء حاضرة في حديثها: "حلّ العصر، وضعنا ما لذ وطاب على الطاولة، ونظمنا صندوق مفاجآت وأسئلة وإجابات ثقافية ووصلات إنشادية وألعابًا ترفيهية، سررنا كثيرًا يومها، حاول الاحتلال تنغيص الفرحة، لكنها مرت".

وما إن تحط عقارب الساعة رحالها عند السادسة مساءً حتى تجلس الأسيرات قرب المذياع للاستماع إلى تهاني الأهل والأصدقاء، يومها غمرت السعادة قلبها، صوتها هنا بدا سعيدًا كذلك: "وصلني خمس مكالمات من أهلي وصديقاتي، وكنت غاية في السعادة، كان ذلك في عيد الفطر، أما عيد الأضحى فمنعنا الاحتلال من تنظيم أي فعالية أو الخروج إلى الفورة".

من الأشياء الجميلة التي لا تفارق علا جلستها مع أكثر أسيرة قربًا من قلبها، واسمها بتول الرمحي، لما يسكت كل شيء داخل سجون الاحتلال، كانت تسهران فوق "البرش" (سرير) داخل الغرف، تتسامران عن قصصهما مع الحياة، وتجاربهما حتى الثانية فجرًا، إلا إذا اقتحمت قوات الاحتلال السجون فجأة.

سبعة أشهر استغرق السؤال الذي اعتقلت في إثره علا، ولم يطرح عليها، سرقت تلك الأيام من حياتها، حتى حل اليوم الأخير في 20 أيلول (سبتمبر) 2018م، وحانت لحظة تنفس علا عبق الحرية من جديد.

"كنت سعيدة أنني سأعود لحياتي الطبيعية وسأتحرر من السجن، لكن حزينة في الوقت نفسه أنني سأترك أسيرات أصبح بيني وبينهن ذكريات، صحيح أن السجن "مقزز ومقرف" لكن هناك ذكريات جميلة مع الأسيرات (...) ربما سبعة أشهر قليلة في عمر السجون مقارنة بالأسرى، لكن تجربة التحقيق لا ترتبط بالمدة، لأنها تترك أثرها على شخصية الإنسان حتى لو كانت يومًا" تتوقف كلماتها هنا وتسدل الستار على قصتها.

اخبار ذات صلة