أفاق الشعب الفلسطيني، خلال النصف الأول من القرن العشرين، على نفسه، وإذا باسم بلاده يتغير من فلسطين إلى "إسرائيل"، ويتغير تاريخه الذي عرفه آلاف السنين إلى آخر صنع بالأمس، بعمليةٍ قسريةٍ لوت عنق الحقائق بشكل زائف، ووجد هذا الشعب نفسه يخوض صراعًا على وجوده المكاني، وهويته وانتمائه. كان ميزان الصراع مختلًا من بدايته، حيث كان الإسرائيلي متسلحًا بدعم الدنيا الفاعلة والقوية (الغرب)، فقدّموا له الدعم الدعائي والمالي والعسكري والتسهيلات على الأرض، بينما كان الفلسطيني أسيرًا للقوة الاستعمارية آنذاك، مقطوع الأوصال عن محيطه العربي. وفي الداخل، كان فقيرًا محاصرًا بقوة بريطانيا المستَعمِرة، فحرمته من السلاح، ومن المقدرة الفعلية على المواجهة. وفي خضم تلك الخيارات الصعبة، خضع الفلسطيني لمساومةٍ قاسيةٍ على حياته وكرامته مقابل المغادرة، فقد قامت المنظمات الإرهابية الصهيونية بالقتل والتهجير والاغتصاب بدمٍ بارد. كانت الخيارات محدودة، وحينما هلّت بوادر التدخل والفزعة العربية في عام 1948، اعتقد الفلسطينيون أن الفرج قد لاح. وبسبب افتقارهم الخبرة في مواجهة صراعٍ كهذا، قرّر كثيرون مغادرة المكان، تجنبًا لتعرّضهم لعميات انتقام بعد أن تُحقق الجيوش العربية الانتصار في الحرب، فكانت الهزيمة.
انكسرت الجيوش الضعيفة، وكانت الهزيمة المؤلمة التي كشفت عن حجم الهوّة والفارق بين هذه الجغرافية المترامية الأطراف، والتي كانت تتمترس خلف قناعةٍ مترسخةٍ، فحواها أن شعوبها هي سليلة الحضارة العربية الإسلامية التي غطت إشعاعاتها أصقاع الأرض، وبالتالي فإن نصرها أمرٌ محتومٌ، لا مناص منه، ولا يفصلها عنه سوى اللحظة التي سيطلقون الطلقة الأولى. ولهول المفاجأة وأمام مجموعة من العصابات مؤلفة من بضعة آلاف، سقط الوهم، وأطلقت منذ حينها حشرجة الأنا المهزومة في نفس كل عربي، سواء على الصعيد الإنساني الاجتماعي، وكذلك السياسي الرسمي. ومن جهةٍ أخرى، دُشنت وأطلقت للإنسانية معاناة شعبٍ، ربما لم تشهد القرون الأخيرة مثيلًا لها.
دفع صخب الهزيمة مئات آلاف فلسطينيين للهرب نجاةً بحياتهم وشرفهم، بعد أن أيقنوا أن هؤلاء المحتلين هزموا كل العرب مجتمعين، فهل لهم بعد ذلك القدرة على مواجهتهم وحدهم، فآثروا الرحيل يحملون معهم الخيبة والألم، ويكمرون على جرحهم الغائر محاولين البدء من جديد، فحمل ذلك الفلسطيني الذي أصبح اللاجئ الفلسطيني، كل ذكرياته وماضيه ومفتاح بيته في حقيبة خاصة، لن تطاولها السنوات المقبلة، على أمل العودة يومًا ما، فهذا الفلسطيني تحت الخيمة، هو وعائلته، كان بالأمس القريب مكتفيًا بذاته، فربما كان فلاحًا تملأ حاكورته عليه مؤونة الدنيا، أو عاملًا في حرفة أو صناعة، أو بقالًا وربما مختارًا أو ابن عائلة ميسورة، كل هذه المسميات والحالات اختفت، وحل مكانها لقب لأجئ في خيمة حقيرة، تتلطف المنظمات الدولية بتقديم بعض طعام، وقليل من الماء والمؤونة لمواجهة برد الجو أو حرارته، أي ألم هذا؟!
وانتثر الفلسطينيون بعد ذلك في كل مكان، وتوالت الهزائم، واستُخدموا شمّاعة للنظام الرسمي العربي، لتعطيل الحياة الطبيعية، فتغذت الدكتاتوريات من علقم الهزيمة المُر، فبدل أن تستخدم صدمة تنعش القلب الميت لهذا الفضاء الجغرافي، استُغلت بشتى الأشكال، لتبقي على النظم المستبدة، لكن الفلسطيني استطاع النهوض، وبناء ذاته. وفجأةً أصبح علامة فارقة في علمه ومكانته أينما حلّ، لكن الواقع العربي استمر في إلحاق الهزيمة به، إذ فجأة تحوّلت "إسرائيل" إلى كيان طبيعي، وابتدأت عملية سلام معها، ترجمت على الطاولة هزائم الأرض، إلى أن وصل الأمر إلى تكرار هزيمة عام 1948 العسكرية. ولكن الهزيمة، هذه المرّة، أخذت الإطار الدبلوماسي، حينما ركلت "إسرائيل" مبادرة السلام العربية التي أطلقت في بيروت في العام 2002، إذ بالنسبة لها، وبموجب حقائق الأرض، ليس من حق المهزوم تقديم المبادرات، بل تلقي الإملاءات. وهنا بدأت لحظة الانتقام من الفلسطيني، فأراد الجميع مداراة سوءاتهم به، فالنظام العربي الرسمي استخدم شماعة الفلسطيني، ليغطي دكتاتوريته وفشله السياسي في التنمية، والمواطن العربي استخدمها ليتوارى خلفها عن فشله في تتبع مسيرة الأمم الناهضة.
أشعلت صحف ومواقع للتواصل الاجتماعي حملة موجهة. فجأة عُلقت على مشجب الفلسطيني كل مآسي العرب، فهو من خرّب المنطقة، وأشعل فيها الحروب، وكان سببًا في تخلفها، وتناست هذه الزمرة أن الفلسطينيين هم من احتلت أرضهم عصابات هجينة سبّبت الخراب، وأنهم هم فقط الضحايا. وبرزت أزعومة أن الفلسطيني باع أرضه. وتسقط هذه فورًا أمام رحلة صاخبة وقاهرة من المعاناة عاشها الفلسطيني، إما تحت الخيمة أو في ظل الفقر والحرمان، أو في بلاد اللجوء تحت مسمى لاجئ. كما أشاع من أشاع أن الفلسطينيين هم سبب الحروب الأهلية في دول عربية عديدة، ويتناسى هؤلاء أن الفلسطينيين إنما استخدموا أدوات في تلك الصراعات، ولأنهم الطرف الأضعف كان قبولهم أو رفضهم الانخراط في تلك الصراعات ليس مرهونًا بهم وحدهم، بل بفرص بقائهم في تلك الدول من عدمه. ويقال أيضًا إن الفلسطينيين يكرهون العرب، ولا أستطيع أن أجد شعبًا علق آماله ومستقبله على العرب، مثل الفلسطينيين. ويقال إنهم لا يستطيعون الاتفاق بينهم على كلمة سواء تجمعهم، وهذا طبيعي، فالنخبة السياسية الفلسطينية جزء من المنظومة العربية التي امتهنت الاستحواذ بالرأي ورفض الآخر، فلا يُحمّل ذلك للفلسطيني. ومن الطبيعي أن الفلسطينيين ارتكبوا أخطاء عديدة، وبعضها قاتل، لكن هذا لا يجب أن يكون سببًا في جعلهم هدفًا للعنصرية والاستهداف.
قد يسأل سائل: لماذا تظهر كل هذه الاتهامات والعنصرية تجاه الفلسطيني؟ لهزيمة النظام العربي، الرسمي والشعبي، في مجالاتٍ كثيرة، إن لم أقل في أغلبها دور رئيسي في ذلك، فقد فشل في التنمية، ووجد نفسه أمام الحائط، حينما انطلق الربيع العربي، وفشلت الشعوب في التعبير عن نفسها من خلال أنظمة ديمقراطية، واللحاق بالتالي بركب التحضّر، كما أن ازدياد هيمنة "إسرائيل" وقوتها وتطورها جعل الجميع يدرك حجم الخيبة التي نعاني منها. ولأن نُظما رسمية كثيرة، حمايةً لذاتها، قرّرت أن تتكئ في تلك الحماية على الولايات المتحدة، وهذه مشروطة بعلاقات حسنة وعادية مع "إسرائيل"، كان مُقدّرًا على الفلسطيني أن يكون الضحية مرتين. في الأولى، حينما تم استخدام قضيته شمّاعة يُعلق عليها الاستبداد والحرمان من التنمية، واستمرار الحال البائس للدول العربية. والثانية حينما فقد ذلك النظام أي إمكانية للاستمرار في اللعبة القديمة للبقاء، فاستخدم القضية الفلسطينية لإرضاء "إسرائيل"، ولاستمالة الولايات المتحدة، لحماية نظم متهالكة، فقدت مبرّرات وجودها. ولكن هذه المرة يُضحّى بالفلسطيني بذاته، إذ أصبح الإرهابي، الحاقد المدمر، سبب الخراب والبلاء، وتحولت "إسرائيل" حمامة سلام، تنشر الأمن والاستقرار في المنطقة، فيما هي سبب كل بلاء.
هذا السلوك العربي شديد الخطورة، فبعد حين ستصحو المنطقة العربية وقد فقدت كل إمكانية للعودة إلى ساحة الصراع، ومحاولة أخذ زمام المبادرة، فقد أحلت أنظمة ونخب عربية وجود "إسرائيل"، وفي الوقت نفسه، هشّمت أسس الفلسطيني وشيطنته، وقوّضت أركان حقوقه، بنزع شرعيته التاريخية على أرضه وتاريخه، وبالتالي مستقبله.. بعد ذلك، هل على الفلسطيني أن يبقى حمامة السلام؟ ما الذي سيمنعه حينها أن يُفجر ذاته والمنطقة، إذا كان قد فقد كل شيء، وبواسطة أبناء جلدته وبأيديهم، وهل بعد اليأس خيارات؟