عاش الفلسطينيون في تجربتهم الحديثة حياة استثنائية، وبنوا صلاتٍ وعلاقات استثنائية، مثل حياتهم التي حولها المشروع الصهيوني إلى شظايا، وكانت العلاقات الاستثنائية، بشكل أو بآخر، ردًا على خطر استثنائي من حالة عدوانية اقتلاعية إجلائية مستمرة. وبذلك تحولت الحياة الاستثنائية التي فرضتها الظروف التي عاشها الفلسطينيون طوال العقود السبعة الماضية إلى حياة عادية، ودفعت هذه الظروف الفلسطينيين إلى تطوير علاقات اجتماعية وسياسية، تتجاوز الجغرافيا الضرورية، إلى بناء الوحدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبنوا علاقات سياسية واجتماعية متجاوزة شرط الإقليم الجغرافي المُوحّد، وكان الدافع الحقيقي وراء هذه الاستثنائية في بناء شبكة العلاقات الفلسطينية المشتركة الطبيعة الإلغائية للخطر الذي تعرّضوا له، فالمشروع الصهيوني، في وجهٍ من وجوهه، ذو طبيعة ابتلاعية للوجود الفلسطيني، بمعنى أنه عمل على ابتلاع الأرض الفلسطينية، لتصوير وجوده بوصفه أصليًّا، وهذا ما جعل إخفاء الوجود الفلسطيني التاريخي عن الأرض الفلسطينية جزءًا من المشروع العدواني، على أساس أن الفلسطينيين كائنات لم توجد أصلًا على هذه الأرض التي ظهر عليها المشروع الصهيوني.
منذ بداية الكارثة التي حلت بالفلسطينيين في العام 1948، كان الغياب (والتغييب)، وما زال، مشكلة الفلسطينيين الأساسية، بعد تغييب وطنهم عن الخريطة السياسية للمنطقة، حيث ابتلع المشروع الصهيوني الجزء الأساسي منه، واختفى الباقي داخل دول عربية أخرى، وفي هذه الظروف كان إعلان الوجود السياسي على الخريطة السياسية هو المشروع الفلسطيني لمقاومة الغياب والتغييب الذي تعرض له هذا الشعب. وقد كلفت معركة إثبات الوجود الفلسطيني على الخريطة السياسية للمنطقة ربع قرن من النضال والظروف القاسية وعذابات الاحتلال وعذابات المنافي، ومنذ النكبة حتى الاعتراف بالوجود الفلسطيني اعترافًا رسميًا عربيًا ودوليًا في منتصف السبعينيات، كانت رحلة النجاح في إثبات الوجود على الخريطة السياسية للمنطقة مترافقة مع رحلة معاكسة في تقلص المكان الجغرافي الذي سيعلن الفلسطينيون عليه وجودهم، بوصفه وطنهم النهائي على جزء متواضع من وطنهم التاريخي، ودفعهم الغياب الذي رافقهم طويلًا عن مصيرهم نهائيًا. ففي وقتٍ تم الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة، جاء هذا الاعتراف وإمكانية تحقيقه في ظروفٍ غير مواتية للفلسطينيين، يتحكم فيها أعداؤهم التاريخيون، الولايات المتحدة و"إسرائيل"، تحكمًا كليًا.
لقد ولَّدت التجربة الفلسطينية الخاصة مشكلاتٍ بنيويةً، طبعتها خلال تاريخها الحديث، بحكم طبيعتها وطبيعة العدو. ولعبت هذه المشكلات دورًا أساسيًا في مصير هذه التجربة التي لم تحسم بعد. وإذا كان الفلسطينيون، شعبًا، استطاعوا أن يقاوموا الغياب والتغييب وآليات التكيّف التي فرضت عليهم عبر ضغوط ووسائل كثيرة، فإن النظام السياسي الفلسطيني، ممثلًا في منظمة التحرير وقيادتها التاريخية، قد قاد سياسة تكيّفية مع الاشتراطات الإقليمية والدولية، جعلت المشروع الوطني الفلسطيني أليفًا، لا يطالب بإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة على أساس الحقوق التاريخية للفلسطينيين في وطنهم التاريخي، إنما على أساس الممكن. فقد تمت فلسطينيًا إعادة النظر في الهدف السياسي الفلسطيني، وإعادة تعريفه في كل مرة من أجل أن يتناسب مع الخريطة السياسية للمنطقة، وحتى يستجيب للضغوط الإقليمية والدولية. وكان هذا عبر التحول في الهدف الفلسطيني من "تحرير كامل التراب الفلسطيني" إلى "الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة" الذي كان اشتراطًا دوليًا من أجل الاعتراف الرسمي بمنظمة التحرير طرفا سياسيا له دور في المنطقة، وتمت إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني من مشروع ثوري تغييري إلى مشروع تسووي حدودي على الحدود النهائية التي وصل إليها برنامجه المؤسس على نتاج هزيمة 1967 وقرار مجلس الأمن 242 الذي يعالجه.
لم تكن مسيرة التحول في الهدف السياسي وردية، فقد دفع الفلسطينيون ثمنًا غاليًا لهذه المسيرة التي ترافقت مع إنجازهم الحقيقي بإعلان وجودهم على الخريطة السياسية واستحقاقهم لوطنهم. وكانت أداتهم التمثيلية/ نظامهم السياسي "منظمة التحرير الفلسطينية" أقل كفاءة في التعبير عنهم، وعن كفاحهم، وعن عدالة قضيتهم وأخلاقيتها، مقارنة بالثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني خلال تجربته الحديثة. ولا يقلل هذا من المكانة التي حققتها منظمة التحرير بوصفها الوطن المعنوي الذي توافقت عليه التجمعات الفلسطينية في أماكنها كافة، داخل الوطن وفي المنافي، سنوات طويلة قبل وقوع الانقسام الفلسطيني.
مع العودة إلى داخل الوطن لبناء سلطة فلسطينية، بفعل اتفاقات ناتجة عن تفاوض مع "إسرائيل"، جرى التحوّل في النظام السياسي الذي نقل مواقعه إلى الداخل الفلسطيني، بوصفه المكان الحاسم في القرار الفلسطيني، وفي حسم المستقبل الفلسطيني لكل التجمعات الفلسطينية. وقد أدّى هذا التحول إلى تفكّك الوطن المعنوي الذي شكلته منظمة التحرير طوال السنوات التي سبقت اتفاقات أوسلو التي قسمت الشعب الفلسطيني. وكانت هذه الاتفاقات، بحد ذاتها، الإعلان عن التكيف النهائي للمشروع الفلسطيني مع المعطيات الإقليمية والدولية الضاغطة، بعد مراحل من المقاومة التي أبداها الفلسطينيون لمطالب التكيّف التي عملت، في نهاية المطاف، على تفكيك المشروع الوطني، ودمجه في المنطقة بوصفه نظامًا عربيًا أصليًا ومتوافقا مع الواقع القائم، من دون أن يحقق دولته الخاصة، وبقي حكمًا ذاتيًا ممسوكًا بيد "إسرائيل". وكان هذا التكيف الأسوأ، لأنه دخل حلا لا يعرف نهايته، ما جعل الحل المجحف بدولة في الأراضي المحتلة في العام 1967 غير ممكن التحقيق.
في ظل هذه الأوضاع، وصل التكيّف الفلسطيني إلى أقصاه. وجعل إدخاله في شروط جديدة مع "صفقة القرن" أي تكيّف إضافي يدخل في خانة الخيانة. وحتى الذين راهنوا على "حل تاريخي" في الشروط المجحفة، يدركون اليوم أن الوضع الفلسطيني دخل نفقًا مظلمًا، فبعدما حسموا أن موقع الحل النهائي للمشكلة الفلسطينية هو على الأراضي الفلسطينية المحصورة بالضفة الغربية وقطاع غزة، لم يعد هذا مطروحًا من "إسرائيل" وإدارة ترامب الأميركية التي تحاول مقايضة الحل بتنازل الفلسطيني عن الأراضي التي تريد "إسرائيل" ضمها مقابل "دولة الجبنة السويسرية" في الضفة الغربية.
لقد استطاع الفلسطينيون أن يخرجوا من الغياب التاريخي، بفعل صمودهم وإرادتهم الاستثنائية. لا شيء مطروح اليوم يحل مشكلة هذا الغياب، حيث بات مطلوبا من الفلسطينيين أن يغيبوا بإرادتهم. مبدّدين صمودهم الأسطوري في وجه الغياب والتغييب في الوطن والمنافي.