أدارت قناة العربية، في الآونة الأخيرة، هجمة منظمة على حركة حماس، ترتكز إلى ادعائها (أي العربية) اكتشاف حركة حماس اختراقا أمنيّا خطيرا في صفوف جناحها العسكري (كتائب القسام) في قطاع غزّة. وقد نفت حركة حماس دقة المعلومات التي أعلنت عنها قناة العربية، وهو الأمر الذي يعني، أنّ مصادر العربية، على فرض وجود مصادر لما أعلنته، هي الأوساط الأمنيّة الإسرائيلية. ولم تكن المشكلة في مجرّد المعلومة صحيحة كانت أم لا، وإنّما في السياق الذي أعادت العربية فيه توظيفها في حملة مكثفة تستهدف صورة حركة حماس خصوصا، والمقاومة الفلسطينية عموما.
المعركة التي تدور بين حركة حماس في غزّة والاحتلال الإسرائيلي، في جانبها الأمني، أكبر من المواجهة العسكرية الظاهرة، فالحركة المحاصرة من كل الاتجاهات، وقد حوّلت قطاع غزّة إلى أرض صالحة للمراكمة العسكرية لجميع الفصائل الفلسطينية، تحفر في الصخر لتغطية الشريط الساحلي الضيق المكشوف، عن أعين الاحتلال وأدواته الاستخباراتية المتفوقة تقنيّا، حيث يملك فيه الاحتلال خبرة عقود. تضاف إلى ذلك، الصعوبات الهائلة في تأمين طرق نقل السلاح إلى داخل القطاع، وتغطية مخابئه وورش تصنيعه في الداخل، وابتكار الحلول لضمان فعاليته في المواجهة المباشرة.
وفي هذا الإطار، وفي حدود ما رشح من معلومات، طوّرت الحركة شبكة أنفاق غاية في التعقيد، لأهداف التنقل والهجوم والكمون وتخبئة الأسلحة، كما طوّرت شبكة اتصالات أرضية محميّة من قدرات الاحتلال التجسّسيّة، ومثّلت ساحة صراع استخباراتيّ ملحميّ بينها وبين قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية، أسفرت في بعض أحوالها عن اشتباكات أحبطت عمليات توغّل استخباراتية وعسكرية في عمق القطاع.
في هذه المعركة الأمنية الخفية، فكّكت الحركة خلايا تجسّس، ووضعت يدها على أدوات استخباراتية تقنيّة متطوّرة، أعادت استخدام بعضها ضدّ الاحتلال، ورسمت بواسطتها، وبواسطة جهودها الأمنيّة الأخرى، مسارات عمليات الاحتلال داخل القطاع، وخرائط التجنيد والعمل والحركة لعملائه، وتمكنت من تجنيد عملاء مزدوجين، وتضليل قوات الاحتلال واستخباراتها، ونظّمت اختراقات تقنية تستهدف أجهزة الاحتلال التقنية المتعلقة بالاتصال والمراقبة وتخزين المعلومات، وفي بعض الحالات ثبّتت تطبيقات برمجية في جوالات جنود إسرائيليين. ودفعت "إسرائيل" الثمن أحيانا في هذه المواجهة السرّية من جنودها ووحداتها الخاصة التي طالما مثّلت دّرة فخرها الأمني والعسكري، هذا فضلا عن نجاحها المذهل في الاحتفاظ بما لديها من جنود إسرائيليين أسرى لسنوات طويلة!
لا تنبغي الغفلة، والحال هذه، أنّ معركة الخفاء الأمنيّة غير متكافئة، تماما كما أنّها غير متكافئة في ساحة المعركة العسكرية. وكما أنّ حركة حماس لا تتحرك على أرض بسعة الأرض التي يتحرك عليها الاحتلال، ولا تملك عتاده ولا عتيده ولا أسلحته ولا تفوق نيرانه، فإنّها هي الحركة المحاصرة، التي تواجه استخبارات العالم كله كي تدخل رصاصة إلى قطاع غزّة، وفي الوقت نفسه لا تملك شيئا من أدوات الاحتلال الاستخباراتية. وهذا هو الظرف المتوقع بين الضعيف والقوي، وبين الذي يعاني الاحتلال وقوة الاحتلال. إنّها بالكلمة المأثورة الكفّ التي تواجه المخرز، وفي معركة كهذه، لا بدّ وأنّ الاحتلال يحقّق نجاحات، ولكنّ التحدّي في اليقظة والإدارة والعمل على إحباط نجاحاته وردّها عليه وعكسها ضدّه، والعمل الأمني، هو عمل في الظلال، ينفي عن نفسه الانكشاف والشفافية. فلن تجد حماس نفسها مضطرة ولا ملزمة للتخلّي عن تكتّمها الأمني، لمجرّد رد الحملات التي تواجهها، أو لأجل شفافية تتناقض تماما مع ضرورات معركتها الخفيّة مع الاحتلال.
نخلص من ذلك إلى أنّ المعلومة التي قدّمتها العربيّة ينبغي أن تدلّ على مصداقية حماس في المقاومة، وعلى أنّ الاحتلال يأخذها على محمل الجدّ، وأن الحركة متيقظة وتعالج أيّ مشكلة تظهر في طريقها لصالح مشروعها المقاوم. ومن نافلة القول في هذا الصدد إنّ أيّ اختراق يستهدف به الاحتلال مقاومة حماس يهدف به إلى كشف مخططاتها العسكرية واحتياطاتها الأمنية، لا السيطرة على قرارها وإدارتها بواسطة عملائه، كما هو حاله في المجال العربي. فهذه المعلومة، على فرض صحتها، في جانب منها تستدعي الإشادة بحماس، إلا أنّ الذي فعلته العربية على العكس تماما، أعادت توظيفها لتشويه حركة حماس، وللقول إنّ المقاومة الفلسطينية مخترقة، وغير نظيفة.
لا تنقطع حملات الإعلام السعودي، بأوجهه المتعدّدة في السنوات الأخيرة، عن الهجوم على حركة حماس خصوصا، والفلسطينيين وقضيتهم عموما، حتّى وإن كان يتذرّع في بعض الأحوال، لحشد الرأي العام، بأنّ حملاته مجرّد ردود فعل على مواقف أفراد فلسطينيين، يهاجمون السعودية، أو يكشفون عن كراهية لها وانعدام تقدير لـ"فضائلها" عليهم، يتبين حين البحث أنّها (أي تلك الذرائع) غير صحيحة، ثمّ يتضح أنها حملة ممنهجة ضمن تحالف بين الاحتلال الإسرائيلي وبعض الدول العربية، في سياقات إعادة تشكيل المنطقة لصالح الاحتلال مقابل تأمين مصالح أنظمة حاكمة وشخصيات متطلعة للملك، بيد أنّ سلوك العربية الذي لا ينفصل عن هذا، سابق على هذه الحملات.
منذ تأسيس العربية، تبنّت خطّا ثابتا، ينحاز للاحتلال في عدوانه على الفلسطينيين، وذلك منذ نهايات انتفاضة الأقصى، مرورا بسلسلة اعتداءاته وحروبه على قطاع غزّة، فضلا عن انحيازها للغزو الأمريكي للعراق، وعدائها لكلّ حالة تحرر من الاستعمار في المنطقة. ومهما تغيّرت عهود مموّليها وسياساتهم، فإنّ خطّ العربية المنحاز للاحتلال لم يتغيّر، ممّا يعني أنّها تمارس وظيفتها الثابتة، وغير المتأثّرة بأحوال مموّليها، فكيف إذا تطابقت أجندتها الأصليّة مع أجندة مموّليها كما الحال الآن؟ هذا الخطّ الثابت في موقف القناة من المقاومة الفلسطينية، يعني بالضرورة وجود نفوذ إسرائيلي وأمريكي مباشر في أعماقها، ومثل هذا النفوذ هو الاختراق الذي يستدعي الخزي، لا الاختراق الذي يأتي في سياق المواجهة، والضربات المتبادلة!
لا ينفي ذلك وجود أهداف آنيّة محتملة، منها ما يندرج في الحملات الأخيرة المعتادة، ومنها ما قد يكون استخباراتيّا لجرّ حماس لكشف بعض ما لديها دفاعا عن نفسها، ومنها ما قد يكون تمهيدا لسياسات معلنة في التعاون مع الاحتلال بذريعة فساد الفلسطينيين واختراق مقاومتهم، وتحت شعار "لن يكون العربيّ أحرص على الفلسطينيين منهم على أنفسهم". لكن، ومهما كانت الأهداف الآنية، فلا يوجد ما يستدعي الاستغراب في سلوك هذه القناة التي يسمح بها الاحتلال داخل غرف أسراه من الفلسطينيين، من دون القنوات الإخباريّة العربيّة كلّها، وكأنّها وسيلة تحطيم معنويّ يسلّطها على الأسرى صباح مساء!