فلسطين أون لاين

في "كواليس" المسلسلات.. "البطل" محمد مدوخ عاش لحظات تقطع الأنفاس

...
غزة- يحيى اليعقوبي

تطلَّبَ المشهد دخول بطل الفيلم محمد مدوخ إلى ثلاجة موتى حقيقية لأخذ اللقطة المناسبة، استعدَّ الجميع للتصوير، أعطى المخرج شارة البدء، نام فنانٌ بدَوْر هامشي (كومبارس) في الدُّرج الأول من الثلاجة، وأسفل منه كان مدوخ، وفي الدرج الأسفل منهما كانت جثّةً حقيقية، أساس المشهد أن يعاين الأطباء البطل الذي يمثِّل قصة الشهيد علي علان، فيلاحظون وجود نبض ويأخذونه لغرفة العمليات.

قطْعٌ في التصوير أرجأ المشهد، في وقت رفع الأذان ذهب الجميع إلى الصلاة، وتُرك مدوخ وصاحب دور الكومبارس داخل الثلاجة مع الجثة، وظهرت صعوبة الموقف، فالمكان مغلق ولا يُفتح من الداخل، مرَّت دقيقة بطيئة، ثم مرَّت أخرى، حتى وصلت إلى الدقيقة الرابعة، وبدأ الصوت يصدر من الأعلى: "يا أستاذ محمد"، لكنّه لم يُجِبْ، عاود الصوت المترع بالخوف: "يا فنان"، بدأ الخوف يزداد بين نبرة صوته وهو ينادي: "يا مرابط.. يا علي علان"، ثم صرخ بعد عدم الإجابة: يا نااااااس!".

المشهد السابق يُظهِر لك أن خلف اللقطات والأعمال الفنية التي نراها كواليس مؤلمة ومضحكة وخطرة، والكثير من الأشياء التي لا نعلمها عن حياة الفنّانين في أثناء التصوير، ربما استغرق إعدادها ساعات وأيامًا طويلة، وكان الموقف السابق بعض ما مر به الفنان مدوخ خلال تجسيده دور البطولة عام 2018م، لقصة الشهيد علان.

وتدور أحداث الفيلم أن علان بعد تعرضه للإصابة برصاص الاحتلال بدأ يعاني التهابًا في الجرح، فيخرج منه الدود، ويُعتقد أنه استشهد، فيُوضع في الثلاجات، لكنَّ الأطباء يكتشفون أنه لم يُستشهد بعد، فيُؤخذ إلى قسم العناية المركز، وتأتي أجهزة السلطة الأمنية وتعتقله، ثم تقصف قوات الاحتلال السجن ويصاب مرة أخرى، ويخرج من السجن، ويستمر في تنفيذ عمليات ضد الاحتلال حتى الاستشهاد.

أول عمل فنّي

إضافة لمظهره الأنيق، كأناقة ساعته الفضية وقميصه المتشابك بالمربعات والألوان "الكاروهات"، وتسريحة شعره ولحيته المهذبة، وضحكته التي لم تأفل عن حديثه طوال الحوار، كان ملتزمًا الموعد المحدد للقاء الساعة الرابعة والنصف، لنعرِّف القراء على مدوخ، أحد أبطال السينما الفلسطينية الذي مثَّل دور البطولة في عدد من الأفلام والمسلسلات.

بلمحة تاريخية عن سيرته الفنية، منذ طفولته كان ينشد ويؤدي أدوارًا مسرحية وأوبريت، ثم انتقل للأعمال الفنية ومثّل دور البطولة في مسلسلات: شامخون (2009)، وبوابة السماء (2017)، وحبر النار (2020)، وفيلم عن الأسرى، وبطولة فيلم الشهيد "علي علان"، وبطولة فيلم عن الأسرى، وهو يحضِّر لدور بطولي قادم، وجميعها عُرضت على قناة الأقصى الفضائية.

يبدأ حديثه من فيلم عماد عقل، فيقول: "يومها كان المخرج يختار الممثلين حسب الشكل، ودوري كان حاتم المحتسب (استشهادي بالضفة الغربية كان على تواصل مع الشهيد عماد عقل)، وهذا كان أول عمل فني أشارك فيه".

عن التجربة الأولى يكمل: "كانت قاسية، فهذا أول عمل والخبرة ليست كافية (...) عانيت في التعامل مع السيناريو ودراسته، وكان شيئًا جديدًا علينا ورغم الصعوبة فإننا خضناه".

بعد ذلك قدَّم مدوخ لبطولة فيلم عن الأسرى رفقة الفنان نبيل الخطيب، الذي صوِّر في عدة أماكن وحارات متلاصقة في منطقة الجامع العمري بمدينة غزة ومخيم جباليا، ويتحدث عن معاناة الأسرى والإهمال الطبي، وواجه صعوبة في الحفظ والأداء والتعامل مع الطاقم.

الصعوبات هنا، لم تقل عن الصعوبات في الفيلم الأول، مضيفًا: "نحن الفنانين نعتمد في الأعمال على صقل الموهبة وليس على التعليم الأكاديمي غير الموجود، ونحن حتى اليوم بحاجة إلى تعليم أكاديمي للتمثيل، لمساعدة الموهوبين في تطوير أدوارهم، مثل الدول الأخرى التي تعلِّم الفنون المسرحية".

"لا أميل للأدوار الكوميدية، ودوري فيها محدود، وأفضّلُ دائمًا الأدوار التراجيدية والأمور التي فيها قوة".. يتحدث عن طبيعة دوره.

مؤهلات بطل الفيلم

ماذا يحتاج بطل الفيلم من مؤهلات وصفات؟ "ليس فقط بطل الفيلم بل أي إنسان سيقف أمام الكاميرا"، استمعوا إلى رده هنا، بعد أن فرد كفيه وكأنه يشرح أمام كاميرا بنسق تعوده: "أي فنان أو موهوب يريد أن يقف أمام الكاميرا يجب أن يكون لديه مؤهلات عفوية، أنت كمشاهد ستقول إنه جميل وحركاته مقبولة، وهذا من العفوية والتلقائية حتى لا تتصنّع شكل الإنسان، ويكون ملائمًا للدور، وهذه وظيفة المخرج في توزيع الأدوار، ويضعه في الدور المطلوب منه، فضلًا عن المقدرة على الحفظ والاهتمام بالمظهر الذي يليق بالدور".

ربما الكثيرون يحبون معرفة كواليس عن الفنانين وكيف يحفظون الأدوار، لم يخفِ مدوخ إجابته كذلك، يقول: "أهتمُّ كثيرًا بدوري في حفظ المشاهد، وأذاكر المشهد كمذاكرتي لامتحانات الجامعة".

الحديث يجبره على سرقة ابتسامة خاطفة: "أتدري؟.. أحيانًا أؤدي الدور مع إحدى بناتي أو زوجتي، وأقف أمام المرآة، وأنصح الممثلين بعدم رمي المشهد والاقتصار على المراجعة قبل يوم التصوير، خاصةً أنه بعد التدريب يختلف أدائي وأكون مستعدًّا للمشهد كيف سأقف، وأبتسم".

يضحك بعفوية: "كانت بنتي الصغيرة تيجي تسأل والدتها "ليش بابا بعمل هيك.. بضله يكلم في حاله".

على حافة الحياة الفنية

أحيانًا تكون المواقف التي يواجهها الفنانون مؤلمة، وفي بعضها يكاد بعض المواقف أن ينهي حياتهم الفنية، كما حصل مع مدوخ في مسلسل بوابة السماء "الجزء الأول"، يتوقف عنده قائلًا: "كنت بطل العمل الفني، وكان المشهد أن يأتي جنود الاحتلال لاعتقال أخي "علي"، فنتصدى لهم ويحدث تعارك مع جنديين وندفعهما نحو الحائط".

قال: "نبَّه المخرج على الجميع ألَّا يضربوا العصي على المفاصل أو الأماكن الحساسة".

يضع إصبعه في جوف عينه، وأخرج ضحكة ممزوجة، هذه المرة بذكريات تلك اللحظة المؤلمة: "ضربوني هان بأول دبسة".

يتابع: "المشهد حينما عُرض على القناة كان صراخًا حقيقيًّا، ويومها حدث نزيفٌ داخليٌ، وأُوقف التصوير، ونُقلتُ بسيارة الإسعاف للمشفى، وبقيت شهرًا ونصفًا ملقى على ظهري لا أتحرك، ورويدًا رويدًا عُدتُ للتصوير، لكنَّ احمرار عيني بدا واضحًا في جميع الحلقات".

سبعة أعوام كانت الفترة الفاصلة بين مسلسل شامخون وبوابة السماء، انقطع فيها مدوخ عن العمل الفني وسافر للسعودية، وهناك تزوَّج وكوَّن أسرة، لأنَّ العائد المادي من وراء الفن لم يكن مجديًا "مثل هذه الأيام"، لكنه مع ظهور مسلسل الفدائي شعر بنقلة نوعية في الفن، وشعر بـ"نوع من الندم"، وهذا ما دفعه للعودة للتمثيل، فأُسندت إليه بطولة مسلم "بوابة السماء" والأستاذ إسماعيل في دور "المرابط".

ينبش أكثر في تفاصيل اختياره للدور، قائلا: "كان المخرجون يبحثون عن شخصية جديدة تستطيع تقديم الأداء المطلوب، وخضعت لاختبار تمثيلي بأداء مشهد أمام لجنة فنية".

يستذكر تلك اللحظة، بعد أن رسم ابتسامة عريضة على وجنتيه: "في المشهد تحدث معاركة بيني وبين إسرائيلي ويبتزني بأنه سيعطيني شيكًا على بياض "فارغ" لكني أمزِّقه وأرميه بوجهه وأقول له: "مش ابن القدس اللي ببيع بيته"، ثم يتدخل جيش الاحتلال".. مثَّلتُ الدور، ووافقت اللجنة على منحه الدور.

"كان المسلسل رائعًا، وأمضيتُ أيامًا جميلة، باستثناء المنغص الوحيد صحيًا وجسديًا وفنيًا، لحظة إصابتي في عيني، في حين أنَّ المسلسل أظهر تشويقًا كبيرًا بإخفاء شخصية المرابط، فنحو 80% من الجمهور توقَّع أن يكون "شريحة" هو المرابط، ونسبة ضئيلة توقعت أن يكون إسماعيل".

"أتدري؟".. يقول: "زوجتي استطاعت معرفة شخصية المرابط من علامة واحدة، بعد الحلقة الثالثة حينما رأت ملابسي التي كانت تغسلها، لأننا متفقون على عدم إفصاح أسرار العمل الفني حتى لأبي وأمي وإخوتي، فعرفت ذلك وكتمته".

حبر النار

أما "حبر النار".. فهو مسلسل فلسطيني درامي يتكون من 26 حلقة منفصلة عن الأخرى تَعرِض كل مرة قصة وشخصيات جديدة لم تظهر في الحلقة السابقة، باستثناء مؤرخ المسلسل والذي جسَّد دور البطولة في قصة شاب فلسطيني مهجَّر نشأ في الشتات، وتربَّى على حب فلسطين، وقبل أن يعود إليها خلال السنوات السابقة شاهد أحداثا وقصصا أو تابعها في الأخبار أو قرأها في الصحف، ثم يتعمَّق في الخبر ويوثِّقه على هيئة دراما، ويتنقل هذا المؤرخ بين مدن فلسطينية عديدة.

يجسِّد الفنان محمد مدوخ -بطل المسلسل- دور المؤرخ، لكن هذا الدور لم يكن سهلًا وشابه الكثير من التحديات والصعوبات، فضلًا عن أن العمل أُنتج في وقت قياسي -خلال 90 يومًا- منذ الموافقة عليه إلى كتابة السيناريو؛ والاعتماد وبدء التصوير مطلع مارس/ آذار الماضي، يتنبأ بإفشال صفقة "ترامب".

"دور شخصية المؤرخ شاب فلسطيني يعيش خارج فلسطين المحتلة، ولد وعاش في الشتات لكنه ترعرع على حب فلسطين، عشقها من خلال روايات والده له عن بلدته التي هُجّروا منها وعظمة فلسطين وحرمة القدس، حتى أتت صفقة القرن، وانتفض الشعب الفلسطيني في وجهها، فقرر النزول إلى فلسطين، ويتنبأ بإفشال صفقة القرن".. يقول مدوخ.

يعرض بعضًا من كواليس العمل وهو على ذات الجلسة: "في حبر النار استبدلت 46 لباسا خلال 26 حلقة، فطبيعة الشخصية القادمة من الخارج حتّمت ذلك، لكن الدور كان أصعب من دور المرابط؛ لأني كنت أقوم بتأدية الأدوار بحركات الإشارات وملامح الوجه".

من الذي اكتشفك؟.. بلا تردد أجاب" المخرج سعدي العطار"، مضيفًا: "رشَّحني في مسلسل شامخون، وفي بوابة السماء، من خلال كيف تتحدث أمام الكاميرا، كيف تعطي المشهد حقه في الحزن والفرح، ملح الوجه، وقفتك، عفويتك مهمة".

يؤمن مدوخ أن الفنَّ شيء أساسي في حربنا مع الاحتلال كالبندقية تمامًا، وهو سلاحٌ ماضٍ، ويوصل الرسالة سريعًا للصغير والكبير، مردفًا: "رأينا المسلسلات التطبيعية كيف تجمِّل اغتصابهم أرض فلسطين، والفنُّ يجب أن يرد عليه بالفنِّ".